الملحق الثقافي:حوار: عبد الحكيم مرزوق :
الرسمُ بالترابِ تقنيَّةٌ ليست جديدة، فالتراب هو المساحة الجغرافية التي يعيش عليها جميع السوريين، وهو رمزُ دماء الشهداء، ويرتبط مع الإنسان بالحبِّ والعاطفة منذ بدء الخليقة، حيث يشعر بالحنينِ إلى البيت الذي ترعرع فيه، والذي يمثّل أولاً وأخيراً، الوطن الكبير الذي ينتمي إليه.
الفنانة التشكيلية “جوليا سعيد” فنانة موهوبة، وقد أقامت الكثير من المعارض، وفي العديد من محافظات القطر، وهي ابنة الشيخ بدر بطرطوس. عاشت في الرقة عشرين عاماً، وتأثّرت بفراتها العذب، وتراثها الأصيل، الأمر الذي أغنى تجربتها ودفعها لإيجادِ جسرٍ تتخطى به حدود المسافات، وتنقل عبر لوحاتها المتنوعة، جمال عروس الجزيرة السوريّة، إلى عروس البحر، وعبرَ لوحة كبرى، مداها الوطن سوريّة.
بدأت “جوليا” مشوار الرسم بالتراب الأحمر، منذ أيام الطفولة، وكانت تمارسهُ بعفويةٍ وبساطةٍ، ولم تكن وسائل التواصل الاجتماعيّ، ووسائل الرفاهية، موجودة على حسب تعبيرها:
“لم أكن أعلم أنني سأصل إلى الشغف، الذي وصلت إليه عبر الرسم باللون الذي يشكّله اللون الطينيّ، وتدرجاته اللونيّة، بالإضافة إلى رحلتي الطويلة في محافظة الرقة الحبيبة، عروس البادية المميّزة بجمالها وطيبة شعبها، وبالثقافة والحضارة التي تشهدها معالمها.. معالم مدينةٍ أغنت تجربتي الفنيّة، وجعلتني لا أتقيّد بمساحةٍ معينة لإنشاء لوحةٍ بتراب الوطن، بعضها جدارية وبعضها وسط أو صغيرة”.
هكذا بدأت بتعريفنا عن بدايتها، ليكون ما قالته عن الطريقة التي اعتمدتها بتشكيل المادة اللونيّة:
“أبدأ بإحضار الترابِ الناعم، وأمزجه بالماء إلى أن يصبح عجينة جاهزة للرسم، وتوجد أنواع وألوان متعدّدة للتراب، وأغلب أنواع الفنون تتداخل مع فنّ الرسم بالتراب، ومنها الفنّ التشكيليّ والتجريديّ، وفنّ الزخرفة، والفن التخطيطي، وهو أحد أنواع الفنون السهلة البسيطة للرسم، وهو تعبير عن الأفكار والمشاعر، من خلال خطوط واضحة، ويُعتبر هذا الفن هو الأساس في فنّ الرسم، حيث كان الإنسان القديم، يرسم على الجدران والصخور ما يراه، وما يشعر به، من خلال خطوط واضحة”.
بعد قولها هذا، أشارت “جوليا” إلى أنها نفّذت لوحات متنوعة بمادة تراب الوطن الأحمر، وهي لوحاتٌ تعبّر عن التراث والأمومة، وجمال وعفوية وبساطة الحياة الريفية القديمة، إضافة إلى تجاربها التي وصفتها:
“لي تجارب عديدة مع الأطفال واليافعين، بالرسم بترابِ الوطن.. كانت استجابتهم كبيرة، وبشغفٍ ومحبّة، وقد أنتجتُ لوحات فنيّة رائعة، لاقت اهتماماً كبيراً من نقّاد ومتابعين وإعلاميين، وفنانين ومهتمين بهذا المجال .
مادة التراب بسيطة، لأنها تحقق الغاية المطلوبة، وتساعد على إنهاء اللوحة بشكلٍ كامل. التدرجات اللونيّة التي يصنعها التراب، تختلف من منطقة إلى أخرى، وأستخدم لإنجازِ اللوحة، أصابعي المبلّلة بالماء، وأحتاج أحياناً، إلى ريشةٍ ناعمة، لرسم الأجزاء الدقيقة باللوحة، وقد حصلت على وثيقةِ إبداع من وزارة الثقافة – مديرية حقوق المؤلف، بصفتي مؤلّفة لوحات فنيّة بالتراب، وآمل أن توضع هذه اللوحات بين أيدي أبنائنا الأعزاء، ضمن منهاج التربية الفنيّة والبصريّة والجماليّة، ليترسّخ في أنفسهم حبّ الوطن، والمحافظة على ترابه، ولتحريض خيالهم بما يشجعهم على استخدام خاماتٍ متوفرة لديهم لخلق الجمال”.
بعد أن حدّثتنا “جوليا” عن تجربتها هذه، عادت إلى بيئتها وطفولتها، لتروي عنهما، وعن انطلاقة موهبتها:
“موهبةُ الرسم ورثتها من والدي النحات “أحمد سعيد” -رحمه الله- وأدواتي كانت بسيطة، لا تخطر ببال أقراني، وكان هدفي تفريغ مشاعري نحو البيئة المحيطة، والإحساس بالجمال واللهو واللعب، وقد استمتعت بلونِ التراب الجميل الجذّاب، وبقيت تلك الأحاسيس والمشاعر راكدة في ذاكرتي، حتى جاءت الفرصة المناسبة، ليشعّ نور لوحاتي، ويواجه الظلام الذي حلّ علينا فترة دمار بيتنا، ومغادرتي الرقّة الحبيبة عروسة البادية، تاركة أحلامي في زوايا بيتي الجميل الدافئ، على أمل العودة إليه بأقرب وقت”.
إنه الدمار الذي أثّر على حياتها مثلما نشاطاتها، ذلك أن ما تلاهُ من غلاءِ الأسعار، وارتفاعٍ في الآجار، أوصلها وهي الأمُّ لأربعة أولادٍ من المتميّزين بالذكاء والمواهب المتعددة، إلى لحظاتٍ فكّرت فيها:
“وصلت للحظاتٍ فكّرت فيها، بالتوقّفِ عن الرسم، أو الانتظار طويلاً ريثما تتحسّن ظروفي المعيشية، وأستطيع شراء ألوان. لكن، سرعان ما عدت إلى الرسم بترابِ الوطن الأحمر، بتقنيّةٍ خاصة بي، ونفذت لوحات عديدة، عن التراث والأمومة والجمال في بلدي سورية.. لقد خلقت فرصة رسم جديدة، تتناسب مع وضعي الجديد، وكان شغفي كبيراً بتراب الوطن، الذي جاءت سنابل القمح منه، وارتوى بدماء الشهداء الأبرار”.
تتوقف، ثمّ تعاود الحديث عن هذا النوع من الرسم، وبشكلٍ تتدرج بالحديث عنه، وصولاً إلى قولها:
“الرسم بتراب الوطن، من أسهل وأروع أنواع الرسم، من حيث طريقة استخدامه والتعامل معه، حيث توجد درجات لونية عديدة، والتراب يعطي اللوحة روحاً ورونقاً مختلفاً، بالإضافة إلى إمكانية فركها بالمنديل للحصول على درجاتٍ لونيّة عديدة، وبإحساس مختلف” .
هذه هي الفنانة “جوليا سعيد” التي كان والدها -رحمه الله- مثلها الأعلى في الرسم.. الوالد الذي كان مزارعاً ونحّاتاً، والذي زرع فيها من الطفولة، بأن التراب إحساس عظيم وقويّ، يعكس حبّ الوطن والاعتزاز به، وبأنه مصدر إلهامٍ وشغف وسعادة، لأيِّ إنسان يعيش على أرضه.
التاريخ: الثلاثاء25-5-2021
رقم العدد :1047