في منتصف القرن الماضي ظهر من بين البرامج الترفيهية في الغرب ما يندرج تحت تسمية (الكاميرا الخفية) بقصد الدعابة، والمزاح الخفيف الذي ينتهي بالضحك، ليفوز هذا البرنامج باستحسان المشاهد بعد أن نجح في أن يطلق ضحكاته.
لكن الفكرة تطورت ليدخل إليها التخويف إلى جانب الخداع، وإلى اصطياد المشاهير من نجوم الفن، أو المجتمع، أو الرياضة، وغيرهم، ليكونوا ضحايا مقالب الكاميرا الخفية، وليتسرب البرنامج بعد ذلك إلى القنوات التلفزيونية العالمية، ثم مترجماً إلى القنوات العربية، ومن بعد أن حقق له شهرة، وانتشاراً واسعين.
إلا أن الأمر لم يقف عند هذا الحد بل ظل يتطور مع ما هو متاح في كل زمن من خدع، ومؤثرات تستخدم في مجال السينما، حتى دخلت التقنية الحديثة إليه فأصبح له وجه آخر أساسه التخويف، والترويع، للمشارك حتى تُنتزع الضحكة من المشاهد، ولو كانت الخدعة تنطوي على مخاطر قد يتعرض لها الطرفان، مَنْ ينفذ، ومَنْ يشارك كضيف حلقة.. فلم تعد الأحداث طريفة، ولا المقالب خفيفة، ولكن الجمهور استمر في المشاهدة، وتعالت ضحكاته استحساناً، أو سخرية ممن تورطوا في قبول الدعوة للمشاركة في البرنامج الذي يُفترض أنه ترفيهي.
ورغم الانقطاع الذي أصاب برامج الكاميرا الخفية لفترة زمنية إلا أنها عادت وبقوة لتصبح برامج تتكاثر، وتتنوع فيها السيناريوهات، وأساليب الخداع المحرجة.. أما القنوات التلفزيونية العربية فلم تعد تلتفت إلى النسخ الغربية، وقامت بإنتاج نسختها التي تعبِّر عن مجتمعاتها، كلٌ في بلده، وتخصص لها مساحة من البث في مواسم تحظى بنسب مشاهدة عالية، لتحصد مثل تلك البرامج النسبة الأعلى من بين غيرها.
هذه الدعابة التي تمادت في حدودها، بل تجاوزتها، لم تعد خفيفة الظل، بل أصبحت ثقيلة، وتنطوي على الرعب الخفي الذي تقترب منه تلك الكاميرا الخفية لتسجله في ملامح الوجوه، وفي استفزاز للضحايا، وإغضاب لها إلى حد إظهار ردود الأفعال السلبية كاستخدام الأيدي كسلاح للدفاع عن النفس، أو التفوه بألفاظ خارجة، وجارحة، كتعبير عن عدم الاستحسان للمزاح الذي يغدو سمجاً، أو القبول للموقف المحرج الذي يجد الضيف نفسه فيه حتى ولو كانت الأمور أحياناً تتم بنوع من الاتفاق المسبق الذي يكشف جانباً من الخدعة.
وهكذا باتت تلك البرامج تخرج عن نسقها الترفيهي الذي كان هدفها الأول لتدخل إلى مجال آخر هو صراخ الخوف كمحفز للمشاهد بقصد الإضحاك في نهاية المطاف.. ولكن متى كان التخويف، والعنف المرافق له مصدراً للضحك، والسخرية؟ وهل استهلاك المشاعر بهذه الطريقة لا يؤدي إلى نتائج عكسية؟ بل ماذا عن الصغار الذين يشاهدون، ويقتبسون، ويقلدون غير واعين للمخاطر التي يمكن أن يتعرضوا لها جرّاء ذلك؟ ثم ماذا أيضاً عن الأموال الكبيرة التي تنفق لمثل هذه البرامج من ديكورات، وأدوات، ومعدات لتنفيذ الخدع، وأجور لطواقم العمل، وللضيوف من المشاهير الذين يتقاضون عادة أعلى الأجور مقابل أي ظهور؟.. وفي المحصلة لا يخرج المشاهد بحصيلة ترفيهية بل بأفكار سلبية لا تدعم أي خطة إعلامية ذكية.
وها هي فكرة التخفي تتمدد لتظهر على الشاشة في ثوب متجدد على شكل مشاهد تمثيلية يؤديها ممثلون، وتتناول موضوعاً اجتماعياً، وهي لا تُنفذ في الاستديوهات بل في الشارع، وبين الناس على أنها حدث حقيقي بينما عين الكاميرا ترصد عن بعد ردود الأفعال، ودرجات الانفعال مع الحدث الذي يبدو في ظاهره كموقف قد يرفضه المجتمع، أو يستحسنه، وبدرجات مختلفة، بينما هو في حقيقته سبر لمشاعر رجل الشارع، والقيم المجتمعية التي يتمسك بها.
فهل ستظل عدسة الكاميرا تدور وهي تراقب، ولا تفصح، وتتخفى، ولا تظهر لتخرج إلينا ببرامج جديدة، في مواسم عروض جديدة، أم أنها ستظل تتآمر على المشاهد حتى تصبح عما قريب مستهلكة إلى درجة الإفلاس؟..
إلا أننا سنظل في انتظار ما ستخرج علينا به الشاشة الفضية في المستقبل من فكر جديد، ومبتكر فيه الترفيه الذي يمتع، ويفيد، وليس فيه اللبس الذي يجعلنا نتساءل: مَنْ المستفيد حقاً؟
إضاءات – لينـــــــا كيـــــــــلاني