الثورة أون لاين – عمار النعمة:
مما لا شك فيه أنه عندما كتب الأديب الكبير محمد الماغوط القصيدة النثرية, أعطاها المكانة المرموقة والرفيعة في الأدب والشعر, وقد احتلت مساحات واسعة من الإعلام الأدبي والشعري, وأثرّت في الأجيال المتعاقبة.
الفرح ليس مهنتي عنوان كتاب الجيب الذي صدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق اختيار مالك صقور وتقديم فلك حصرية وهو يتضمن قصائد شعرية ملفتة وجميلة نذكر منها: خريف الأقنعة – الحصار – بعد تفكير طويل – في الليل – اليتيم – الوشم – الخوف ….الخ.
وكتبت فلك حصرية في مقدمتها المعنونة (قمة لا تعرف المهادنة أو الاستكانة) من النادر جداً بل من الأمور التي قد لا تستدعي تفكيراً أو تفسير تعليل, أو تعجب سؤال, وربما حالة شرح وتبرير أن تصافح عيناك وجه ذلك الغائب – الحاضر, عبر صورة له تشعرك وكأنك تنحاز إليها – دون تفكير, صورة شاعر عربي كبير يتلخص بمطالعة اسمه الكبير المبدع: محمد الماغوط, وقد آثر ألا يكون بعيداً عن صديقة عمره ورفيقة عشرته, وخليلة أيامه وأحزانه, أفراحه وأتراحه, ابتساماته وصهيل حزنه وتشنجات آلامه وتواترات أوجاعه, وشهقات غربته وعزلته، وحدته وعجزه, وقد صرّح لنا بشفافية في هذه التحفة الشعرية الرائعة وقد سماها الفرح ليس مهنتي ومتى كان له الفرح صديقاً, وهو الحزين منذ وجد على سطح الأرض, وقد غادرته السعادة منذ عقود وأسدلت الستار على تفاصيل ومفردات ووقائع أيامه وأسابيعه وسنواته لتبقى السيجارة وحدها تسكن شفتيه على مرمى من دروب النبض, وإيقاعات الحزن, وشموس حزن لا يلين ولا يضعف.
يعد الماغوط من أبرز شعراء قصيدة النثر وقد عرف عنه أنه مقل يقتصد في الكتابة ويوجز في الكلام ولعل في قلة الحوارات الصحفية التي أجراها على مدى حياته دليلاً وتوضيحاً لما شعر به ويراه من كون المرحلة التي عاشها لا تستأهل الكلام عنه, أو لعله رأى أن اللغة قد استهلكت وأفرغت من معانيها حتى صارت بأمس الحاجة إلى نقاهة وإلى إقامة مديدة في معبد الصمت الشافي, فالصمت أبداً ملاذه وملجأه حيث يتبحر في تأملاته طويلاً ويركن إلى يأسه بجلال ومراره مجادلاً إخفاء قلقه وتشتته وشكه في كل شيء حتى المستقبل لم يكن بمنأى عن مكابداته وأحزانه وضياعه وضعفه وقلقه وعالمه السابح في لج مظلم متلاطم.
الماغوط نسيج فريد من نواح كثيرة على المستوى الإيقاعي, صاغ قصيدة النثر بإيقاعها الخاص التي وضعها موازاة قصيدة التفعيلة وكان لقدرته على بناء الإيقاع بما يتكامل مع لغته وصوره الجريئة الجسورة, كان أول من أسس شعرية النثر في القصيدة العربية ومهما وصلت قصيدة النثر الآن إلى حدود بعد أن صارت موضة لدى الشعراء فإن إنجازاته تظل تؤكد على العبقرية الإبداعية التي حولت قصيدة النثر إلى وعي طبيعي في الخيال العربي.
ومن المجموعة نقتطف بعض الأشعار فعلى سبيل المثال نقرأ من قصيدة اليتيم التي يصوّر من خلاله حالة اليتيم المحروم من كل شيء, سوى الحلم الذي يحلم به, في خيمته تحت شمس الله.
آه.. الحلم.. الحلم
عربتي الذهبية الصلبة
تحطمت وتفرق شمل عجلاتها كالغجر
في كل مكان, حلمت ذات ليلة بالربيع
وعندما استيقظت
كانت الزهور تغطي وسادتي
وحلمت مرة بالبحر
وفي الصباح
كان فراشي مليئاً بالأصداف وزعانف السمك.
ومن قصيدته (إلى بدر شاكر السياب) نقرأ:
يا زميل الحرمان والتسكع
حزني طويل كشجر الحور
لأني لست ممدداً إلى جوارك
ولكنني قد أحل ضيفاً عليك
موشحاً بكفني الأبيض كالنساء المغربيات
لا تضع سراجاً على قبرك
سأهتدي إليه
كما يهتدي السكير إلى زجاجته.