الثورة – سهى درويش:
على الساحل السوري وقرب رأس شمرا شمال اللاذقية، يعود بنا التاريخ لمملكة أوغاريت التي كانت أعرق المراكز التجارية في حوض المتوسط، وعقدة وصل وتواصل بين حضارات مصر وبلاد الرافدين والأناضول واليونان، ومقصد التجار والسفن، كما عرفت الاستيراد والتصدير منذ ذاك الزمن.
ولعل الألواح الفخارية المكتشفة في أوغاريت كشفت عن اقتصاد متطور، وتوُثّيق العقود التجارية بالخط المسماري الأوغاريتي والذي أسس لتجارة معاصرة، كانت شريان الحياة في أوغاريت، ولم تكتف المملكة بدور السوق المحلي، بل بنت علاقات دولية ضمنت لها الاستقرار والازدهار، أما أساطيلها البحرية فقد جعلتها لاعباً رئيساً في شبكة التجارة المتوسطية، قبل أن تنطفئ حضارتها في نهاية القرن الثاني قبل الميلاد بفعل الغزوات والكوارث.
خلية نحل
وعن تاريخ التجارة الأوغاريتية تحدث مدير آثار أوغاريت الدكتور غسان القيم لـ”الثورة”: إننا نعود في قلب المرفأ المطل على البحر الأبيض المتوسط، وتحديداً على شاطئ مدينة أوغاريت المزدهرة،
نعود إلى ثلاثة آلاف وخمسمئة عام، كانت تعلو أصوات الباعة في المدينة، وتتصاعد روائح التوابل والعطور، وتتمايل أشرعة السفن مع نسيم البحر المشبع بعبق التجارة والأسفار، هذه المملكة العظيمة التي كانت في ذروة مجدها، مدينة نابضة بالحياة، تُشبه خلية نحل لا تهدأ.
وأضاف الدكتور القيم: إن أوغاريت لم تكن مدينةً صغيرة محدودة الموارد، بل كانت بوابة الشرق نحو الغرب، وملتقى القوافل والسفن، حيث كانت البضائع تتدفق من كل حدب وصوب.
وفي الأسواق الكبرى للمدينة، نجد النحاس الأحمر اللامع والقصدير النقي، وقد جُلبا من الجبال البعيدة عبر طرق القوافل، ليتحوّلا في أيدي الصنّاع المهرة إلى أدوات برونزية لا تُضاهى، وإلى جانبها كانت أكياس الحبوب بأنواعها تتراصّ في المخازن الضخمة، من القمح والشعير والعدس، بينما تُباع صُرر الصوف وزيت الزيتون الفاخر في أوان خزفية مزخرفة.
مركز صناعي
ولفت الدكتور القيم إلى أن أوغاريت لم تكن فقط محطة للعبور، بل كانت مركزاً صناعياً أيضاً، فالنسّاجون فيها يصنعون الأقمشة الملونة، وتحديداً الحرير المصبوغ بالصباغ الأرجواني الثمين، ذاك اللون الملكي المستخرج من أصداف البحر، الذي لا يُنتج إلا بكميات قليلة لكنه يساوي وزنه ذهباً.
وبين أنه في السوق الداخلي للمدينة ركنٌ صغير للعطور وهو سوق التجميل والزينة، وتتفنّن نساء المدينة، ونخبة زوارها، في اقتناء كل ما هو نادر وثمين، من خشبيات مزخرفة وعاج منحوت، إلى أدوات زينة دقيقة مصنوعة من الذهب والفضة.
وما زاد من بهاء هذه السوق- حسب د. القيم، هو مرور التجّار القادمين من بعيد، يميّزون بأزيائهم ولهجاتهم المختلفة، تجار من قبرص، وآخرون من جزر اليونان، ومن ممالك لا تُعد ولا تُحصى على طول سواحل البحر المتوسط، وكان بين هؤلاء قرابة ألفي تاجر تم تسجيل أسمائهم في الوثائق المحفوظة، معظمهم من أوغاريت نفسها ومن القرى التابعة لها، لكن الباقي، كانوا من بلاد بعيدة، يحملون معهم أسرار التجارة، وحكايات العوالم الأخرى.
مركز تجاري عالمي
وأشار الدكتور القيم إلى أن التجّار في أوغاريت لم يكونوا مجرد بائعين أو ناقلي بضائع، بل كانوا أصحاب نفوذ وقوة، يتحكمون في تدفّق الثروة ويعقدون الاتفاقيات مع الملوك والنبلاء ،وتحوّلت أوغاريت بفضلهم إلى ما يشبه المركز التجاري العالمي في ذلك الزمان، إذ تُصاغ الصفقات بلغاتٍ متعددةٍ، وتُختم على ألواح الطين التي كانت تسجّل كل حركة بيع وشراء.
وختم الدكتور القيم: إن أوغاريت لم تكن التجارة فيها مجرّد تبادل للسلع، بل كانت أسلوب حياة، ومصدر قوة، ومفتاح الحضارة.
أوغاريت لم تكن مجرّد مملكة قديمة، بل مدينة سبقت عصرها في الفكر الاقتصادي، ورسخت مكانتها كأحد أعمدة التجارة العالمية الأولى.