الثورة أون لاين – أديب مخزوم:
بالعودة إلى لوحات الفنانة التشكيلية فيفيان الصائغ ، التي عرضتها في غاليري “إتيان دو كوزان” بباريس عام 2007 بمعرض ثنائي، مع الفنان عبد الله صالومة، نجدها ركزت على الاختزال والتحوير ، لجهة تبسيط الأشكال (موضوع المرأة تحديداً) .. ولقد رأينا جرأة في استخدام اللون والخط العفوي، وجرأة أيضاً في مجاهرتها بموضوع جسد المرأة العاري أو شبه العاري، بلباس “المودرن ” العصري للوصول إلى ذلك الافتتان بالمرأة – الموديل ، وبالأجواء اللونية المتحررة، التي تجعل التأليف البصري أكثر طراوة وأكثر مفاجأة وأكثر حيوية .
في معرضها الجديد بصالة السيد 2021 رأينا تحولات في المواضيع والأسلوب وتحولات في التعبير ، عن أزمة الإنسان والعصر. كأنها تريد التعبير عن جدلية العلاقة التاريخية بين الخير والشر في الأزمنة الميثولوجية والمعاصرة .
نحن هنا أمام لوحات لإثارة الأسئلة، لأن التشكيل السوريالي الذي نجده في حالات التلوين والتكوين، يبعدنا مسافات عن الإشارات الواقعية المباشرة، ويدخلنا في جوهر الحالة الرمزية ، والتي تعمل من خلالها لإبراز الصور الحلمية المتداخلة بين الإشارات والرموز البدائية والمعاصرة .
وفي هذه العودة إلى الماضي الأسطوري المجسد في بعض لوحاتها، نستخلص الدلالات والدروس والنتائج المعبرة خير تعبير عن تمزقات المجتمعات الاستهلاكية، وما فيها من أزمات وأسلبة وكوارث وحروب . حيث تجسد الأشكال الإنسانية والحيوانية والطيور لتعبّر من خلالها، عن تفسخات الأرض المحروقة بأدوات الشر، وعن الخراب الداخلي، الذي يعيشه الإنسان المعاصر، في المدن الاستهلاكية.
وتدخلنا في جوهر السرد القصصي الأسطوري، والأداء اللوني والخطي، الذي يتدرج من أقصى حالات الدقة في بعض المقاطع، إلى العفوية والتلقائية والاختصار والاختزال والتحوير في مقاطع أخرى، بحيث تتحول الحكاية إلى فسحة تأمل زاخرة بالإشارات والرموز والتعابير الذاتية والروحية والإنسانية .
هكذا تعبر لوحاتها الجديدة عن دراما الحياة المعاصرة المشحونة بالعنف والتوتر اليومي، والمرتبطة بانكسارات الزمن ، ولهذا لا يمكن وضع حدود بين لوحاتها الأحدث وتأثيرات الواقع المتفجر ، فهي تؤكد في لوحاتها الجديدة أن الرؤى السوريالية، هي المدخل الحقيقي للتفاعل مع الحياة المشحونة بأحداث الحروب، والتعبير عن الواقع الإنساني المأساوي الموجود في عالمنا الراهن .
ومن أجل ذلك أظهرت رغبتها في إسقاط الأقنعة، التي تغطي الوجوه والضحايا. كما لو أن الفكرة التي تبحث عن أجوائها التعبيرية الساخرة، ليست سوى صرخة رفض لواقع حاد ومفجع ومفتوح على بشاعة الحياة وآلامها .
وما هو لافت في أعمالها أيضا تلك الإيقاعات اللونية، التي تهدأ مرة، وتعنف مرة أخرى، فالمساحة تشف أحياناً ، وتبرز أحيانا بطريقة الطبقات اللونية، وكل ذلك يبرز في حركات الفرشاة التلقائية، التي تتركها تعطي كل ما تملك من حساسيات متفاوتة، تنسجم مع السياق السوريالي الذي اعتمدته منطلقاً. وهي وإن كانت تذهب أحياناً إلى لونية مفرطة في داخليتها عبر تكوينات خطية ومساحات لونية متداخلة بمنتهى الحرية والعفوية ، إلا أنها تقدم في النهاية لوحة متمكنة من ابتكار نسيج بصري خاص، يزيد من حالات تحسسنا لايقاعات جمالية حديثة لها علاقة مباشرة بثقافة وفنون العصر الحديث .
وما هو لافت رغبتها الأكيدة في البقاء ضمن حدود الأشكال والواقع، وعدم رغبتها في الانجراف بالموجة التجريدية ، فهي مهما انفعلت تبقى على صلة بإشارات الموضوع المتخيل وعناصره الحية، التي تقيم علاقة بين اللون والإحساس وبين الحضور والتلميح الشكلي .
وتذهب في أحيان كثيرة إلى جعل المساحات اللونية المعتمة تتداخل مع مساحات لونية مضاءة ، وبذلك تتدرج الحالة اللونية ، من تلك الباهتة أو القاتمة التي يغلب عليها اللون الداكن وتدرجاته، إلى أخرى تغلب عليها درجات من الأحمر والأزرق والأبيض وغيرها .
وبتعاملها هذا في صياغة الأشكال الإنسانية والعناصر الحيوانية والأسطورية، تضفي انفعالاً مباشراً على حركة الخطوط والألوان ، ذاهبة إلى عفوية تعبيرية مؤسلبة للوجوه والأشكال الإنسانية ، لدرجة أنها تطليها أحيانا باللون الأحمر وغيره .
والفنانة فيفيان الصائغ تقدم في لوحاتها ما له علاقة بالواقعية والسوريالية والرمزية والوحشية ( وحشية اللون الأحمر الصارخ مثلاً ).. وتبرز قدرة على تكييف لوحاتها، مع هذا النسيج المتنوع والمختلف من الاتجاهات الفنية التي تصارعت سنوات. وفي كل ذلك تقدم تنسيقاً واضحاً للألوان، وتقترب كثيراً من الايقاعية الغنائية ( لمسات اللون المتتابعة والمتراقصة) التي تحرك المشهد أمام العين.
والمشهد في لوحاتها يضم امرأة أو أكثر وتبدو في أكثر الأحيان وكأنها تتحرك بحالة ضياع وبهجرة دائمة، مع إضفاء هالة حول بعض الوجوه للإيحاء بالجو الأيقوني ، رغم أن الصياغة التشكيلية واللونية بشكل عام تبقى مدروسة وموزونة وخاضعة لأسلوب خاص بها، فالمساحة التشكيلية التي تعمل عليها تشهد محاولات دائمة لإدخال العناصر الإنسانية والحيوانية والكتابية أحياناً بالحروف اللاتينية .
وفي بعض أعمالها تتجاوز إطار اللوحة المرسومة بالخط واللون، وتدخل في اختبارات فن التجهيز حين تضيف أشياء أمام اللوحة على أرضية الصالة ( لعب أطفال مثلاً)، وبذلك تتجاوز حالات الرسم ببعدين، وتدخل في حالات التشكيل الفراغي بأبعاده الثلاثة .
وعلى الرغم من تأثر بعض لوحاتها بالمصادر اللونية الغربية العفوية، إلا أنها تطرح في جوهرها انفتاحها على الرؤية المستمدة من إيحاءات التفاعل مع الموروث الشرقي وينابيعه المحلية، المترسخة في ذاكرة العين ومخزونها البصري، والانفعال الذي يسيطر على مساحات متفرقة من اللوحة ، لا يلبث أن يتراجع بإجراء بعض التعديلات الواعية في فراغ السطح التصويري. واللوحة تتحول من حالة إلى أخرى ، في ظل الاقتراب والابتعاد عن الواقع، والخشونة أو السماكات الناتجة عن تقنية وضع المادة اللونية، تصل إلى حدود الإحساس بخشونة الواقع الحياتي الراهن، وهذا يجعل اللوحة مرة أخرى، قريبة من حالات التوتر والقلق والاضطراب، وصولاً إلى الموت المعلن والاقتلاع والتهجير والدمار النفسي والروحي .