على زاوية الأسبوع الماضي – حول ذكرى تأسيس التلفزيون السوري – علق الإعلامي العريق الدكتور منير الجبان مُحقاً : «يظلم هذا التلفزيون الذي ليس له إلا بداياته في جبل قاسيون يعيش على أطلالها، ويعيش وهجها الذي يحجب رؤية كلّ ما بعدها بكثير من العفوية مرة، وبفيض من النكران المقصود والمتعمد مرات».
وفي المكان ذاته تمنى الفنان العريق أسامة الروماني « لو تضمن المقال أسماء أخرى لا تقل أهمية وحضوراً عمن تم ذكرهم، وخاصة المخرج سليم قطاية أول مخرج درامي للتمثيليات الصغيرة، وجميل ولاية، وغيرهم كثير يحق لهم أن يُخلّدوا كرواد ومبدعين». وعقّب الزميل محمد خليل – مشكوراً – أن النص استعرض «أمثلة وطبعاً هناك مئات شاركوا في التأسيس في كلّ الجوانب، هناك رواد في التصوير والإضاءة والديكور والتأليف، وحتى في إدارة الأستوديو». ومع ذلك فقد اتفقت مع رأيي الأستاذ أسامة الروماني ووعدت باستدراك الأمر قريباً.
لماذا لم أفعل الأمر ذاته مع الدكتور منير؟ الجواب ببساطة: أني عملت لوقت طويل على توثيق الدراما التلفزيونية بحيث أستطيع الإحاطة بتاريخها إلى حدٍ كبيرٍ. وهو ما لا أستطيعه مع البرامج التلفزيونية، حيث لا تتوفر المصادر الكافية لتوثيقها، لا لي، ولا لغيري، حسب ما أعتقد. يجدد الدكتور منير اقتراحه القديم حول «تشكيل لجنة تجرد تاريخ التلفزيون من خزائنه المليئة بالأرشيف». وأجزم لو أن اقتراحه وجد طريقه إلى التنفيذ لما وجدت اللجنة أي شيء توثقه. أقول هذا بحكم معرفتي العميقة بالطريقة التي تمّ فيها التعامل مع الأرشيف في أكثر من جهة معنية بالذاكرة. وكان يفترض أن تمثل مجلة الإذاعة والتلفزيون مصدراً أساسياً لتوثيق ذاكرة التلفزيون، لكن هذه المجلة المتوقفة منذ سنوات طويلة عُوملت – معظم الأحيان – كإبن غير شرعي، رغم كونها إحدى أقدم المجلات العربية. وقد شهدت عدة تبدلات في اسمها ووظيفتها على مدار العقود الماضية. إذ صدرت لأول مرة أواخر صيف عام 1953 باسم مجلة (الإذاعة السورية). وبعد تأسيس التلفزيون في نهاية الخمسينيات أصبح اسمها (هنا دمشق) وتحتها عبارة إذاعة وتلفزيون الجمهورية العربية المتحدة، دون أن يجري أي تعديل على الرقم التسلسلي لأعداد المجلة، إلا أنه لم يجر عرض برامج التلفزيون فيها، و اقتصر على برامج إذاعتي دمشق وحلب، ربما يعود ذلك إلى عدم وصول التلفزيون بعد إلى أنحاء سورية، أو بسبب عدم انتظام برامجه. وبعد الانفصال في ايلول (سبتمبر) 1969بقي العنوان كما هو (هنا دمشق) لكن وضعت تحته عبارة تشير إلى التغير السياسي: (إذاعة وتلفزيون الجمهورية العربية السورية).
في 16 شباط (فبراير) 1967، صدر العدد الأخير من المجلة، وبالطبع لم يذكر فيه أن المجلة ستتوقف، كما هو حال معظم الدوريات التي تتوقف بالرغم عنها. وغابت عن الوجود أي مجلة خاصة بالإذاعة والتلفزيون منذ ذلك العام وحتى عام 1976، حين صدر العدد الأول من (هنا دمشق – مجلة الإذاعة والتلفزيون) في 16 نيسان (أبريل) غير أنها بدورها توقفت عن الصدور عام 1987، لتصدر مرة ثالثة باسم (فنون) في 5 آب (أغسطس) 1991، ثم تتوقف للمرة النهائية عام 2008. وبعد كل توقف، أو تغيير، كان أرشيف المجلة يختفي بطريقة، أو أخرى. لم توقف المجلة عن الصدور بسبب منطقي في أي مرة، وغالباً ما كان السبب عدم وجود (كيميا) بين رئيس التحرير والمدير العام. غير أن الأمر الأسوأ كان في التبدل غير المبرر في وظيفة المجلة. فحين صدر العدد الأول من مجلة (الإذاعة السورية) كتب رئيس التحرير في مقدمتها «نضع اليوم لبنة جديدة في هيكل بنائنا الإذاعي كانت تنقصه، وإننا نأمل أن تنمو هذه المجلة وتتقدم، فنكون قد أوجدنا نوعاً جديداً من الصحافة الاختصاصية تنقص بلادنا». أما حين صدر العدد الأول من مجلة (هنا دمشق) كتب محرر الافتتاحية : «هل تستطيع هذه المجلة أن تكون المجلة الفنية البديلة؟» ؟؟؟ ..وهذا يعني ببساطة أن المجلة تخلّت عن كونها مجلة اختصاصية للإذاعة والتلفزيون لتكون «مجلة فنية بديلة للمجلات التي تغرق بالصرعة الفنية وما شابهها.» وكرّس تغيير اسم المجلة بعد ذلك إلى (فنون) توجهها الفني، دون« أن تكون سداً في وجه المادة الرخيصة التي تقدم عن الفن والفنانين»- كما تمنت سلفها (هنا دمشق)- إذ كانت في واقع الحال استنساخاً عن المجلات التي أملت (هنا دمشق) أن تكون بديلة عنها. وقطعت علاقتها – صحفياً – بالإذاعة والتلفزيون إلى حدّ التوقف عن نشر حتى جداول برامجهما.
وأختم بما كتبته تعقيباً على تعقيب الدكتور الجبّان: قدرة الإنسان على التذكر محدودة. هي الحقيقة التي تدعو من عمل في التلفزيون خلال أي مرحلة أن يكتب ذكرياته عنها. وما زال المبادر الوحيد في هذا المجال الأستاذ معن حيدر – أمد الله بعمره – عسى أن تستطيع (ذواكرنا) ان تلتقي في ذاكرة جماعية تؤرخ لهذا المجال بنزاهة وإنصاف.
إضاءات – سعد القاسم