الملحق الثقافي: هفاف ميهوب:
أذكر أني قرأت ذات مرّة، قصّة لم أعد أتذكّر اسم كاتبها، ولكنها تروي تفاصيل حربٍ طاحنة، كان أوجع وأغربُ مشهدٍ فيها، حين يتّصل الابن الجندي بأمّه قائلاً لها: «أمّي، سيرافقني اليوم إلى البيت، زميلٌ لي في السلاح، وقد بُترت ساقه اليمنى، ويده اليمنى، وفقد بصره.. سيحلُّ علينا ضيفاً لبضعة أيام، إلى أن يتسنّى له الذهاب إلى قريته».. فتردّ عليه أمّه: «لا يابنيّ.. لا أستطيع تحمّل هذا المنظر».. يشكرها ويغلق السماعة، ثمّ يطلق النار على نفسه..
من بإمكانه أن يُصدّق، أو حتى يظنّ، أن أمّاً تشبه الوطن، بأرضهِ وسمائه ومائه وهوائه، لا يخطر لها أن يكون ذاك الجريح ابنها؟!!..
ربّما هي قصّة حقيقيّة، حدثت في مكانٍ ما على الأرض.. لكن، ما حصل في وطني السوري، وعلى مدار سنوات الحرب التي عشنا فيها ولا نزال، أقدس الجراح والنزيف والتحدّي.. ما حصل جعلنا نفتخر، بأننا لم نسمع صوت أمّ، يشبهُ صوت أمّ ذاك الجندي، الذي أطلق رصاصة الرحمة على نفسه.
لم نسمع، ولن نسمع، لأن أمّنا الكبرى سوريّة، لها القِدمُ التاريخيّ لوجودِ الإنسان على هذه الأرض، فالحياة المتراكمة بمواجعها، أخرجت أمّاً لا يشبهها في حنانها وعطفها وتضحياتها وصبرها، شيءٌ على الإطلاق.. أمٌ كانت، وعندما يأتي إليها ابنها الجريح، تركعُ أمامه، وتقبّل أعضاءه الجريحة أو المبتورة، واهبةً نفسها لخدمته، بلا أفٍّ أو تأفّف..
هي تلك الأمّ السوريّة التي اكتشفت سنبلة القمح، والتي أعطت من وجيبِ روحها وقلبها لهذه الأرض، فلذات كبدها، ونور عينيها.. تماماً كالشّمس، تمنحُ الضيّاء بحبٍّ، ودون مقابل، وتصبّ الغضب على المعتدي، بإطلاقِ أشبالها لمواجهته وسحقه..
أمّنا الكبرى سوريّة، هيّ تلك الأمّ التي تحضن جراح أبنائها، لأنهم يدافعون عنها.. هي أمّ كلّ جنديٍّ سيّجها بجسده، ليحميها ويصدّ عنها الهجمات والاعتداءات البربرية الغادرة.. كلّ جنديٍّ، جعل رصاصة واحدة يطلقها على عدوّها، أو تخترقه فتقلته بحقدها وشرورها، تفتحُ شهيّة أصدق وأشرف الأقلام، لخوضِ معركة الوجود، مثلما شهيّة الأمهات لأن ينجبن، المزيد من أبطال التحدّي والصمود…
mayhoubh@gmail.com
التاريخ: الثلاثاء3-8-2021
رقم العدد :1057