الفساد والإفساد ليسا ظاهرتين جديدتين في حياة المجتمعات فقد جاء في إحدى البرديات الفرعونية: اختلت الموازين واختفى الحق والبعض يحاول حتى خداع الآلهة يذبحون الأوز ويقدمونها قرابين زاعمين أنها ثيران، وهذا النص الوارد في الكتابات الفرعونية يشير بشكل واضح إلى أن الفساد كان مترافقاً مع وجود الإنسان على هذه البسيطة، والأكثر دلالة على ذلك أن الديانات السماوية قد أفردت حيزاً واسعاً من تعاليمها لإصلاح النفس الإنسانية مقدمة لإصلاح البشر.
لقد أصبح الفساد يشكل تهديداً خطيراً للمجتمعات التي تسير في طريق النمو أو تواجه تحديات داخلية من قبيل الحروب والكوارث وغيرها بوصفه عائقاً خطيراً من عوائق التنمية لجهة استنزافه الثروات الوطنية وتدميره للمنظومات الأخلاقية للمجتمع وما يستتبعه ذلك من ظواهر تدمر العقد الاجتماعي الوطني وتضعف الروح الوطنية وحسّ المسؤولية الذي تعتبر من أهم عوامل ووسائل الحفاظ على الأمن الاجتماعي والاقتصادي للدول.
وبادئ ذي بدء لا بدّ من محاولة تعريف الفساد وفق منظمة الشفافية الدولية التي ترى أنه: استغلال الوظيفة العامة أو السلطة من أجل تحقيق منافع خاصة، أما صندوق النقد الدولي فلم يقف عند هذه الحدود فعرفه على أنه: إساءة استعمال الوظيفة العامة للكسب الخاص، كأن يقوم موظف أو شخص بقبول أو طلب رشوة لتسهيل عقد أو استغلال وظيفة أو سرقة مال عام أو إسناد منصب لشخص يهمه أو يرتبط به برابطة ما لجهة تحقيق مكاسب ومصالح شخصية، أو عندما يعرض وكلاء أو وسطاء لشركات أو أعمال خاصة بتقديم رشى للاستفادة من سياسات أو إجراءات عامة للتغلب على متنافسين وتحقيق أرباح خارج نطاق القانون، وكذلك استغلال مواقع عامة في الجهاز الوظيفي أو في قطاع الأعمال العام والخاص للاتباع بهدف نهب واستغلال المال العام .
ولا شكّ أن للفساد كظاهرة عالمية أشكالاً كثيرة وقد تتركز أحياناً في حزمة واحدة أو مستويات متعددة، فهناك ما يمكن تسميته الفساد الكبير وكذلك الفساد الصغير، ويقصد بالأول الفساد الذي يصيب المرافق الأساسية في الدولة وكبار المسؤولين في المواقع الاقتصادية والذي ينتج عن عقد الصفقات الخارجية وإبرام عقود التصدير أو الاستيراد وحصريتها أو إسناد العقود للشركات الأجنبية وما يتلقاه مبرموها مما يسمى عمولة وهي رشى مستورة، وإلى جانب الفساد الكبير هناك الفساد الصغير والذي يتراكم ليشكل في النهاية فساداً كبيراً وهو ما يصيب الجهاز الوظيفي في الدولة من خلال تفشي الرشوة وعدم تنفيذ المشاريع العامة بالمواصفات المطلوبة وضعف تحصيل الضرائب والتهرب منها وضعف الأداء الوظيفي وضعف أو انعدام الشعور بالمسؤولية وانتهاك القوانين وعدم احترامها وضعف هيبة الدولة ومؤسساتها وتراجع دور المؤسسات التربوية والثقافية والمنبرية، إضافة إلى التزوير والتهريب والتلاعب بالأسعار والابتزاز وتبييض الأموال وعدم وضع الإنسان المناسب في المكان المناسب وتكريس ثقافة الكسل الفكري وإضعاف الروح الوطنية وحس الانتماء للوطن.
ولا شكّ أن لظاهرة الفساد أسباباً عديدة وربما كان لظروف كلّ مجتمع خصوصية في ذلك، ولكن في الإجمال يمكن الوقوف عند أسباب اجتماعية واقتصادية وأخلاقية وتربوية وسياسية تقف وراء تفسير تلك الظاهرة الخطيرة، منها ما يتعلق بالفقر المادي والفكري والمعرفي والمستوى المعيشي والفوارق الطبقية الحادة وقصور السياسات التنموية وغياب العدالة الاجتماعية وإهمال الطبقات الفقيرة والمحتاجة وضعف مناهج التعليم، ومنها ما يتعلق بالأجهزة الرقابية والقضائية وغياب المحاسبة وعدم تطبيق القوانين وسطوة الأجهزة التنفيذية على مؤسسات الدولة وتسلطها وغياب الشفافية في عمل المؤسسات وتغييب الرأي العام وقصور الأداء الإعلامي ولاسيما الإعلام الاستقصائي، ولعل أهم أسباب الفساد تدمير المنظومة الأخلاقية للمجتمع بحيث يصبح وهج المال والمنافع أقوى من وهج الأخلاق والقيم، وهذا ما حذر منه وأشار إليه السيد الرئيس بشار الأسد غير مرة في خطبه وكلماته وتوجيهاته للحكومات المتعاقبة.
ولجهة أن الفساد ظاهرة عالمية ووفق سياقات العولمة والمتوحشة منها على وجه التحديد فلا مندوحة من تنسيق دولي لمكافحته والتضييق عليه، فالفاسدون يتميزون بالقدرة على التحايل على القوانين والتملص منها عن طريق تبييض الأموال والأشخاص؟ وعمليات التهريب والمخدرات وإيداع الأموال في البنوك بأسماء مستعارة أو مأجورة في ظلّ تشابكات مصالح فرضتها العولمة الاقتصادية والشركات متعددة الجنسية والرأسمال العابر لكل الحدود.
من خلال ما سبق يتضح أن الفساد والإفساد من أخطر التحديات التي تواجه المجتمعات بغض النظر عن موقعها وشكلها ونظامها السياسي وهنا تبرز الحاجة لاستراتيجيات عالمية ووطنية لمكافحته، فعلى المستوى الداخلي لابدّ من حزمة تدابير البعض منها يقع على عاتق الحكومة ومؤسساتها الرقابية والإعلامية والمنابر المختلفة والبعض الآخر على عاتق المجتمع، ولا شكّ أن دور المجتمع لا يقلّ أهمية عن دور الدولة فإذا كانت الخطوة الأولى تتمثل بتجفيف منابعه بكل أشكالها وعبر سياسات بناءة وفعالة وحاسمة فإن للتربية المنزلية والمنابر الثقافية والدينية والإعلامية الدور الأساس في ذلك عبر تكريس ثقافة النزاهة، وإلى جانب ذلك لابدّ من المزيد من العمل على مبدأ الشفافية وأن تشكل المؤسسات القيادية على مختلف مستوياتها حالة القدوة في عملها وسلوكها ونزاهتها وتحظى بثقة واحترام الرأي العام ويشار إليها بالنزاهة والغيرية على مصالح المجتمع والدولة لا العكس وأن تحترم القوانين والأنظمة وتتمثل أخلاقيات المجتمع الأصيلة وتمثلها وتتشدد في مراقبة سلوكها أولاً ومحاسبة الفاسدين بأشد العقوبات التي تحقق الردعين العام والخاص، وهذه من وجهة نظرنا هي خريطة الطريق الموصلة لنهايات مأمولة ومضمونة النتائج.
إضاءات- د. خلف المفتاح