الملحق الثقافي:وجيه حسن:
عصراً كان خروجه من البيت.. وهْجُ الوقت كان سمْحاً، بحيث لم يصدم جبهته المُفلطحة، المنفتحة على رؤى غريبة..
مباسمُ الأرصفة تقبّل قدميه.. جسدهُ النّحيل المنمنم، امتطى طريقاً مُوصِلة إلى “كورنيش” البحر..
في صدره ارتسم قوس قزح من أفكار شتّى مُزرْكشة، تنبئُ عن قلقٍ مزمن، وتَيهان مُعتّق!..
رمى عينيه في لججِ الماء.. وقتها تشامخت عدّة موجات صاخبات، مُعبّرة عن تحدّيها لكلّ الرّياح المجنونة..
نوارس البحر بلونها الثلجي الآسِر، كانت تندغم أمام باصرتيه في مهرجانٍ كرنفاليّ لافت، بل كانت تسبحُ بفرحٍ طاغٍ، أو حزنٍ حادّ!..
لا أحد من روّاد هذا المكان يستطيع التّخمين..
كانت قدما “حزين الغضبان” تدفعانِه إلى الأمام، بينما نفسه المضطربة تعيده إلى الماضي، بما له وما عليه..
الأفكار الملوّنة، والذّكريات المُوجِعة تجلده بِسِياطها، تعصف به، كعاصفةِ يومٍ مطير.. تركبه أرجوحة أطفال، حديدُها صدئ، سلاسلُها متقطّعة..
في مكانٍ ما.. توقّف “الغضبان” في وقفته الحائرة، كان بعيداً عن أقدام المارّة..
من جديد ألقى وجهه في فضاءِ البحر المُقيّد.. نَبسَتْ نفسه، تلومه على وقفته المجانيّة البلهاء، تدعوه بصوتها المبحوح للانكفاءِ والعودة..
بغتة مرّ أمام عينيه سربٌ من طيورٍ جميلةٍ بيضاء، كانت تمارس لعبة فضائيّة خاصّة، حيال كائنات بحريّة صغيرة، المُفترض أنّها تتمتّع بفضائيّة خاصّة كذلك، لكنّ قوانين البحر تقلبُ “موازين الموازين”، والقويّ يأكل الضّعيف!..
الأفكار المرْضُوضة لاتزال تدْهَمُ خلايا مُخّه المُعذّب من حريّات محسورة..
ببصره وبصيرته تابع لعبة المدّ والجزْر لموجات متدافعات لعُوبات..
في كتب الموج قرأ سطوراً لانحسار أممٍ شتّى، في أزمنتها كانت سيّدة هذا الماء، وهذه الأمواج..
في لحظاتٍ مثمرة واعية، تذكّر حوادثَ من التاريخ، تلك التي تتحدّث عن أمجاد الآباء والأجداد وبطولاتهم..
بطريقة “المونولوج” همس: “التاريخ كفيلٌ بإعادة نفسه من جديد”..
باستهزاءٍ خبيثٍ ضحك.. هزّ رأسه مرّات ومرّات، تعبيراً عن خيْبات متشامِخات..
ردّد صدره بشيء من تفاؤل ضمنيّ: “أمِنَ الممكن أنْ يتشامخ انحسارُنا من جديد؟.. هل نرى قريباً أمجاد الأجداد والآباء في حَيَواتِ الأبناء والأحفاد”؟!..
في المكان الذي كان يقف على حبيبات رمله، أسقط كثيراً من الأفكار المُطلسَمة، أمرَ قدميه بالتحرّك بمحاذاة البحر.. حينها أحسّ أنّ البحر يُداعبه، أو يتحدّاه، لم يكن الأمر واضحاً.. ربّما كان يلومه على بلادتِه، وعلى رحلته المجانيّة البلهاء..
كان البحر أستاذه في هذا الوقت، وربّما في كلّ وقت.. فمن حركات الأمواج واندفاعاتها، عرَفَ أنّ التوقّف مجلبة للزّنخ، إذ لا بدّ من لعبة الكرّ والفرّ، لعبة المدّ والجزْر، كي يبقى قلب البحر متجدّداً، نابضاً بالحياة..
في أعماق “الغضبان” نبت كلام مهم:
“البحر عالَمٌ خاص.. عالَمٌ خطِر.. لكنْ، أليس هو الآخَر عالَم إسمنتٍ وحديد؟ عالَم تحدّيات وصراعات؟!
سمعه البحر بآذان أمواجه، أجابه بثقة فيها أنباضٌ من فلسفة الماء:
– لماذا تلومني أيّها الزّائر التّائه؟.. أليسَ عالَمي كعالمكم؟..
– لكنْ يا بحر، صدرُك أوسع من صدورنا!.
– هذا هراء.. سخافة ما تمضغه أضراسُك.. أنتم بني البشر، بعقولكم الفتيّة، تتجاوزون كلّ السّقطات إذا حاولتم أو أردتم..
– الإناء الكبير دائماً يستوعب ما هو أصغر منه..
– ألا يوجد في عالمكم وفي حياتكم أسماك قرشٍ آدميّة؟
أتبع البحر كلماته بضحكٍ هستيريّ.. أرسل ناحية الشاب “حزين” موجات ضاحكات متناغمات، بل هازئات!..
في النّقطة التي وصلتها قدما “حزين”، كان قرص الشمس “رائعة النّهار” أميَلَ للغروب والاختفاء.. ووجه الأفق لحظتها، كان مُتشرّباً بِحُمرة حبّ الرمّان..
هذا المشهد الرّائع الماتِع، أغراه بمزيدٍ من الحركة والنّشاط.. تابع بنفسه لعبة التّيهان المفضّلة، ولعبة الضّجر من أمور متفلّتة، كانت تراود نفسه كذبابٍ مِلحاح..
حينها وعندها، قال في سرّه: “أليس الضّجر والتّيهان عملة هذا العصر بمدّه والجزْر”؟!..
بعد مضيّ ثلّةٍ من السّاعات، شعر “حزين” أنّ جسده المكدود تعب من التّطواف على رمل السّاحل ..
نظر البحرَ نظراتٍ تراوحت ما بين القهر والتّأنيب والإعجاب والتّساؤل..
لكنه في لحظة ما، قرّر العودة إلى البيت، ليمارس على الطريق، بينه وبين نفسه، لعبة البحر.. لعبة المدّ والجزْر كذلك..
التاريخ: الثلاثاء31-8-2021
رقم العدد :1061