بعضٌ من معجزات

 

الملحق الثقافي:ثراء الرومي *

من يوقفُ زحفَ رياحٍ تحمل معها الكثير من الغبار والشّوائب؟.. من يقول «صه» لذكرياتٍ جميلة حدّ الوجع وهي تنهمر كالمطر؟.. كيف أقولُ لطفلةٍ كُنْتُها، سامحي عجزي عن أن أرسم لأطفالي غيوماً بيضاءَ ناصعةً، يتقافزون على متنها ويرسمون من فوقها قوس قزحٍ لأحلامهم المستحيلة، كما كنت أفعل بفرحٍ نادر؟.. كيف أعتذر لها عن عدم قدرتي على أن أعبث بزنبرك الزّمن، لأعيد لهم ما سرقته منهم تلك الحرب اللّعينة؟!.
أولستُ أمّاً، والأمّ بنظر أطفالها قادرة على اجتراح المعجزات؟. كيف لا وأنا التي كنت أوحي لهم أنّني بصفرة بسيطةٍ منّي، ستأتي العصافير لتطير بي مبتعدةً عنهم دون عودةٍ، كما في القصّة التي كنت أحكيها لهم، حين يبالغون في شقاوتهم، ومع تنامي مدركاتهم بدؤوا يناقشون عجز العصفور عن حملي، لأؤكد أنّهم يجتمعون ويفردون كلّ الأجنحة لأصعد عليها، حتّى بلغ بهم الأمر أن يتنازعوا متسائلين، من يمكنه الذّهاب معي في مرحلة لاحقة، لأؤكّد من جديد أنّ العصافير لا تأخذ معها سوى الأمّهات.
قد يبدو هذا للبعض ابتزازاً عاطفيّاً، ولكنّني كنت أرى فيه تحفيزاً لمخيّلة أطفالي، وتعزيزاً غير تقليديّ للحضّ على البرّ والرّحمة، فما أحوجنا إلى رأفة أطفالنا بنا في زمن انقلبت فيه كلّ المعايير، وأصبح جلّ ما نتمنّاه من معجزاتٍ أن نخطف من قلوب وعيون أطفالنا، تلك الدّهشة الطّفوليّة البريئة أمام مقطعٍ لصاحب قناة يوتيوب، بلغ عدد مشاهداته الملايين لعرضِهِ أحدَهم وهو يتناول كمّيّات هائلة من الفلفل الحارّ، أو يتقاسم مع أصدقائه كعكة عملاقة ويتنافسون على التهامها.
كيف ننهاهم عن مشاهدة ما يبثّه مروّجي التّفاهات المماثلة، ممن ترى أحدهم يزعق وينعق كالبوم، ضاحكاً بصوتٍ لا يُطاق، ينثر في الأجواء تلوّثاً سمعيّاً وبصريّاً يفوق تلوّث ذائقة أطفالنا بشاعةً؟.
أمام هذا الزّحف المريع والشّنيع، أجد نفسي أواظب على تمتمة عبارات لا تخلو من انتقاداتٍ لاذعة للإسفاف الذي يتابعون، وبشقّ الأنفس أستدرجهم لقراءة قصّة أو قصيدة، أو لأملي عليهم كتابة بضعة سطورٍ تذكّرهم بالفاقد التّعليميّ الذي رافق ظروف الجائحة الكونيّة اللّعينة: «الكورونا»، وقد يقتضي الأمر ترغيباً أو ترهيباً وفق أمزجتهم. فكيف لي وأنا أحمل على عاتقي همّاً ثقافيّاً ومجتمعيّاً كبيراً أودّ نشره بين النّاس، أن أحقّق غايتي إن لم أبدأ بذاتي وبأفراد أسرتي؟..
إنّها معركةٌ حقيقيّة بكلّ ما تحمله الكلمة من معاني الاستبسال في مواجهتها، في زمنٍ تقعّر فيه كلّ شيء، وباتت الرّسوم المتحرّكة الهادفة عملةً نادرةً. كم هو موجع هذا الواقع لجيلٍ مثلي نشأ على حكايا الأمّ والجدّة، وعلى أرقى الرّسوم المتحرّكة أمثال أوسكار بتاريخها النّاصع، وهايدي بروعة قيمها ونقائها. من منّا لم يعش أحزان «سالي» ولم يتعاطف مع الظّلم الذي ألمّ بها؟ هل يمكن لأحد أن يتجاهل جمال وذكاء «ساندي بيل» ورحلتها المريرة الحافلة بالتّشويق والإثارة بحثاً عن أمّها؟ من لا يذكر سيباستيان ورحلاته ومغامراته مع كلبه الجميل بيل، وذاك الصّغير بوتشي؟..
أسماءٌ انغرست في ذاكرتنا الجمعيّة، ويفوح شذا قصصها بأروع تفاصيلها، كلّما طالعتنا في المحطّات برامج مروّعة، مفرّغة من القيم، ويبدو شغلها الشّاغل التّرويج للعنف بأشكاله. بكلّ الأحوال، ليس ثمّة ما يتيح لأطفالنا أن يتابعوا غثّاً أو ثميناً على التّلفاز في غياب الكهرباء، ولا نملك سوى سلاح التندّر على ما يشاهدونه على قنوات اليوتيوب، ومحاولة توجيههم بكلّ ما أوتينا من صبرٍ وجهدٍ وأناة، ومواكبة كلّ ما يتابعون بعينٍ ولسانٍ ناقدَينِ على الدّوام.
مهمّة عسيرة تستوجب تضافر الجهود بين الوالدين وتعاون المدرّسة لتمدّ لهذا الجيل -الغارق في سطحيّات وسلبيّات ما أفرزته التّكنولوجيا- يداً واعيةً يسترشدون بها إلى طريقهم الصّائب، مهما تأفّفوا وتذمّروا، فهذه رسالتنا، والزّمن يكرّر نفسه بمنتهى الغرابة، ليثبت لنا كما سيثبت لهم حين يصبحون آباءً وأمّهات، صوابيّة بوصلة الأهل في عالم يضجّ بالمتناقضات، ويحفل بكلّ ما هو غريب وشاذّ ممّا يستدعي يقظتنا التّامّة، ولاسيّما أنّ التّرف الوحيد المتاح لأكثر من جيل، هو الالتصاق إلى الشّاشات (الغبيّة) في غياب كلّ وسائل التّرفيه الأخرى.
ويبقى السّؤال: «هل علينا أن نعزل فلذات أكبادنا عن هذا الزّحف اللّاحضاريّ المريع؟»، والجواب هو قطعاً لا، فقسرهم على الابتعاد ليس حلّاً على الإطلاق، بل الأجدى أن نقوم بالمراقبة الجادّة والنّقد المستمرّ الذي وإن لم يلقَ آذاناً مصغية، فلا بدّ أن يساهم في رسمِ ذائقتهم، وجعلهم قادرين على المحاكمة النّاضجة.
بوسائلنا الخاصّة يمكننا اجتذابهم إلى عالم الكتاب والورقة والقلم، وحينها فقط يمكن لنا أن نقول، إنّنا اجترحنا بعضاً من معجزات.
 *كاتبة وشاعرة ومترجمة

التاريخ: الثلاثاء31-8-2021

رقم العدد :1061

 

آخر الأخبار
بانة العابد تفوز بجائزة السلام الدولية للأطفال 2025   لبنانيون يشاركون في حملة " فجر القصير"  بحمص  ابتكارات طلابية تحاكي سوق العمل في معرض تقاني دمشق  الخارجية تدين زيارة نتنياهو للجنوب السوري وتعتبرها انتهاكاً للسيادة  مندوب سوريا من مجلس الأمن: إسرائيل تؤجج الأوضاع وتضرب السلم الأهلي  الرئيس الشرع يضع تحديات القطاع المصرفي على الطاولة نوح يلماز يتولى منصب سفير تركيا في دمشق لأول مرة منذ 13 عاماً  الجيش السوري.. تحديات التأسيس ومآلات الاندماج في المشهد العسكري بين الاستثمار والجيوبوليتيك: مستقبل سوريا بعد رفع العقوبات الأميركية الأولمبي بعد معسكر الأردن يتطلع لآسيا بثقة جنوب سوريا.. هل تتحول الدوريات الروسية إلى ضمانة أمنية؟ "ميتا" ساحة معركة رقمية استغلها "داعش" في حملة ممنهجة ضد سوريا 600 رأس غنم لدعم مربي الماشية في عندان وحيان بريف حلب من الرياض إلى واشنطن تحول دراماتيكي: كيف غيرت السعودية الموقف الأميركي من سوريا؟ مصفاة حمص إلى الفرقلس خلال 3 سنوات... مشروع بطاقة 150 ألف برميل يومياً غياب الخدمات والدعم يواجهان العائدين إلى القصير في حمص تأهيل شامل يعيد الحياة لسوق السمك في اللاذقية دمشق.. تحت ضوء الإشارة البانورامية الجديدة منحة النفط السعودية تشغل مصفاة بانياس لأكثر من شهر مذكرة تفاهم مع شركتين أميركيتين.. ملامح تحول في إنتاج الغاز