«من ترابِ الوطن، جُبلتُ مع الشّعر المقاوم»

 

الملحق الثقافي:وهيب عجمي *

رحمُ الشّعر
جبلني وطني بكمشةٍ من ترابه، وبدمعةٍ من عينيه، وتغريدة لبلبلِ كَرْمه.. تنفّسني والدي صوتاً عذباً، من على إحدى تلال الجنوب، في بلدتي “معركة”.. يحملني الوادي إلى أجنحة الأثير على الجهةِ المقابلة، ويعود بي على صدى صوت أمّي، التي كانت تجمع حلمات التين لتملأ السلال، وقبل أن يأتي المساء، يجتمع طيفها مع طيف والدي، فيعكس الحبّ الذي وُلد من أرض الصمود والشّعر والغناء…
الشّاعر لا يأتي من الفراغ، فقبل وجوده كان شاعراً بالقوّة، ثمّ أصبح شاعراً بالفعلِ أثناء الوجود.. لكلّ نبتةٍ بذرة، ولكلّ شاعرٍ موهبةٌ هي الأصل، ولا تكفي الموهبة للشّاعر الناجح..
كلّ شيءٍ نستطيع أن نتعلّمه فنحصّله، إلا الشّعر، إذ ليس هناك جامعة ندخلها ثمّ نتخّرج منها شعراء بعد حين، ولذا فإن أسهل علينا، أن نضيف إلى نجوم السّماء نجماً، على أن نزيد من عدد شعراء الأرض شاعراً..
مفهومٌ شعريّ.. كيف… ؟
الشعر الحقيقيّ هو زلزال النفس، يحطّمها ليبعثها من جديد.. لا أعرف من الذي يبدأ بالآخر، أنا أم القصيدة، وأغلب الظنّ أنها هي التي تكتبني، تسكنني فيصير قلبي مصنع قصائد.. القصيدة عاصفة تحملني كريشةٍ، ولا أعرف في أيّ أتونٍ تلقي بي، تلك المجنونة الشّاردة في خبايا الذات..
كالمهرة تأتي، وما أن أسمع صهيلها، حتى أتنبّه لقدومها، ليس لها محطّة، وليست مقيدة بزمانٍ أو مكان.. لا أبحث عنها لأجدها، ولا أستدعيها، بل تأتي بلا موعدٍ كأنها الحدس، وبرؤية ثاقبة وغير خائبة…
الشّعر سيلُ النفس التي لا يستطيع أحد أن يقف في وجهها، هو الثائر العملاق الذي لا يُقمع.. تنزف جروحي آهات الكلام، أهدأ عندما أفرّغ لهب داخلي، وأتعجّب كيف لا تحترق الأوراق بين يديّ، رغم أنني أتشرّف بانتسابي لأبناء البشر، ويحرق قلبي هذا الموت الذي يقبضهم، تلو الآخر..
يقولون حضارة، وحبّذا لو غيّروا اسمها، فأيّ حضارةٍ هذه والناس يموتون بأسلحتها الفتاكة وعقليّتها الضارية؟!!.. لا أعترف بأيّ حضارة لا يرتقي فيها الشعر فترتقي، ولا أعترف بأي شعرٍ وأيّ شاعر، إن لم يترجم حالي فينطقني…
يا أيها الشّاعر الذي قصيدته لا تقول، لماذا تُلقيها أو تنشرها علماً بأنها، لا تدري إن كنت الشّاعر، لكنها تدري من المشعور..
يا أيّها الشّاعر الذي يكتب ويّلقي قصيدة، لا تمتّ إلى النّاس بصلة، ماضرّك لو كتبتها بلغةٍ أجنبيّة غريبة كليّاً عن الناس، ممن تلقيها عليهم ولا يفقهون منها إلا أنك كاتبها؟!..
إذاً، على القصيدة أن تتفاعل مع جمهورها، فهي بمثابة السلك الذي يصل إليه بالشحنات الكهربائيّة، بغية تحريكِ وتنبيه إحساسه الشعريّ، والشّاعر لا ينتظر من يحثّه على الإبداع، لأنه صاحب الشرارة المبدعة، وكما عليه أن يقود سفينته، لأنه هو الربّان القادر على قيادتها، على الجمهور والقرّاء، أن يكونوا من المبحرين، فتقودهم إلى نجاتهم، بلغتها وقصدها وهويّتها.
يستهويني الشّعر بشحناته التي تتدفق بلا إنذار، فتأخذ شكل الانفجار العاطفي الذي ألهبها، قد ينسابُ كما ينسابُ النهر مقبلاً على ضفافه، وقد ينسلُّ كالسّارقِ بين جذور الحور “وعربشات العليق”، أو متيمِّماً بترابِ الحقلِ كمصلٍّ لم يجد الماء، أو هاوياً كالشّلال، أو هائجاً كالبحر، أو متفجّراً كالبركان.
نحنُ لانعرف كيف يُداهمنا الشّعر، لذلك لانفرش له الصّالونات، ولا نعدّ له مراسيم الاستقبال، فالقوالب والأشكال، لا نجهّزها بطريقةٍ هندسيّة معيّنة، لنصبّ فيها مشاعرنا، والشّعر لا شكل له، فالدفقة الشعريّة هي التي تحدّد شكل القصيدة.
إننا أحوج ما نكون إلى هذه الدفقات الفاعلة، إلى الموهبة الشعريّة المبدعة، إلى الشّعر لا الأشكال، ولئن غابت القصيدة خلف حجاب المجاز الشفّاف، لتطلّ بشكلٍ أو بآخر علينا، بوجهها الجميل، ففي ذلك روعة للشّعر، أمّا آن ترحل عنّا نهائيّاً، وتُدفن في قبر الطلاسم، فإن في ذلك لدهشة كبرى، وإذهالاً مهيباً..
أنا لستُ مع القصيدة المسطّحة، بل أعشق المباشرة الفنيّة، وأصرّح بملء فمي: خلصونا من شعر الطلاسم..
أنا مع الشّعر الذي يهزّني من الأعماق، ويجري بي فيضانات من الأحاسيس، شئت أم أبيت، فالشّاعر فنان يسمو بالطبيعي، إلى ما فوق الطبيعي، منطلقاً من تراثه، متسلّحاً به لا منقطعاً عنه. أنا مع التجديد بالمُطلق، حتى يتجدّد الشّعر من نفسه.
القصيدة معشوقة يُصعب نيلها إلا بالاقتحام، سحريّة الحركة والتجاوز، ولا قناعة مع الشّعر الذي يُصبح القنبلة المؤقتة ضد الرتابة وضد نفسه، وعلى الصورة الشعريّة أن تتوالد وتتلاشى، ليولد غيرها، فهي ليست خالدة في مفهوم الشّعر، بل تتحوّل إلى ذكرى في متحفه، والإبداع هو المهمّ، ومن دونه نستغني عن الشعر نهائيّاً، الحياة كلّها تموت وتعيش حين تموت، فأين العظماء يا ترى؟!!
أليس الشّعر هو الحياة، ويجب أن يموت ليعيش؟!!.
بعد أن أوجزت وجهة نظري هذه، أقول لعشّاق القصيدة المقاومة: عبر المقاومة أتحسّس وجودي وكياني، في شعبٍ عظيمٍ مقاوم، حوّلتني المقاومة إلى طفلٍ يقاوم بالحجر، وصبيّاً يشعل الإطارات ويهتف الشّعارات الرافضة للاحتلال، وبكلّ إقدام وشجاعة، لم أحسب حساباً للموت، وكان لي شرف الانتساب إلى كلّ الأشياء التي تحرّكت للمقاومة.. كلّ شيءٍ قاوم في الجنوب، رياحُ القرى، زنود الشّجر، الزيت المغلي والحجر. كلّ شيء انتفض من أجل كرامة الوطن والإنسان، وشاركت القصيدة في القتال، وهو أضعف الإيمان.
لم أحصر مشاركة القصيدة في القتال، بالأطر الضيّقة، بل تعدّيتها لتشمل إنسانيّة الإنسان، طارحاً قضيّة الجنوب وفلسطين، في البُعد الإنساني المجرّد، فالشّعر في حدّ ذاته نشاطٌ إنسانيّ مقاوم، وعسى أن تبلغ قصائدي حلمها، لإطفاءِ حريق الحروب التي أتت على الأخضر واليابس، مثلما على الأرواح التي تتنفّس الوطن.
* شاعرٌ لبناني

التاريخ: الثلاثاء31-8-2021

رقم العدد :1061

 

آخر الأخبار
"نبض الحياة الطبي".. خدمات مجانية تخفيفاً للضغوطات خدمات مجانية تخفيفاً للضغوطات بحث عدد من المسائل الوقفية وندوة حول العمل الدعوي المخدرات الرقمية "الأغا خان" تقدم جهازين لغسيل الكلى لمستشفى سلمية الوطني خدمة "شام كاش" في بريد درعا "رعاية المكفوفين" بدمشق تكرّم اثنين من حفظة القرآن الكريم ثلاث منظومات طاقة لآبار مياه الشرب بريف حماة الجنوبي الفن التشكيلي يعيد "روح المكان" لحمص بعد التحرير دراسة هندسية لترميم وتأهيل المواقع الأثرية بحمص الاقتصاد الإسلامي المعاصر في ندوة بدرعا سوريا توقّع اتفاقية استراتيجية مع "موانئ دبي العالمية" لتطوير ميناء طرطوس "صندوق الخدمة".. مبادرة محلية تعيد الحياة إلى المدن المتضررة شمال سوريا معرض الصناعات التجميلية.. إقبال وتسويق مباشر للمنتج السوري تحسين الواقع البيئي في جرمانا لكل طالب حقه الكامل.. التربية تناقش مع موجهيها آلية تصحيح الثانوية تعزيز الإصلاحات المالية.. خطوة نحو مواجهة أزمة السيولة تعزيز الشراكة التربوية مع بعثة الاتحاد الأوروبي لتطوير التعليم حرائق اللاذقية تلتهم عشرات آلاف الدونمات.. و"SAMS" تطلق استجابة طارئة بالتعاون مع شركائها تصحيح المسار خطوة البداية.. ذوو الإعاقة تحت مجهر سوق العمل الخاص