الملحق الثقافي:غسان كامل ونوس *
تتوزّع الموائل الثقافيّة العامّة – وهي الأكثر والأعمّ- والخاصّة، في الأرياف القريبة والبعيدة؛ وهذه حال إيجابيّة، يفترض أن تثمّن بأبعادها ومَدَياتها وأصدائها؛ كما تستحقّ، وأن يُنظر إلى متطلّباتها ووسائل إغنائها ودعمها بالاهتمام، وأن يؤخذ دورها بالحسبان.. وبصرف النظر عن الإمكانيّات، التي لديها، ودرجة استقلاليّتها أو تبعيّتها إلى أيّة مرجعيّة رسميّة أو خاصّة، فإنّ مجرّد وجودها، يمنح العمل الإنسانيّ في الريف إشراقة قيّمة، تحمل معاني كثيرة؛ مع الإشارة إلى اختلاف المبادرات والممكنات حسب طبيعة كلّ منها وموقعه وعناصره البشريّة والمادّيّة، وقدرته على العطاء المطّرد، في مختلف المواسم والفصول؛ مع مراعاة إمكانيّة دعوة أكثر عدد من المهتمّين ومن مختلف الشرائح والأعمار، في أوقاتٍ بعينها، وأماكن محدّدة، وبرامج تأهيليّة وتثقيفيّة نظريّة وميدانيّة، ووسائل تسهيل وتظهير لهذا المحتوى أو ذاك، وبأيّ شكلٍ أكثر جذباً، وبكثيرٍ من المرونة والحيويّة، ودعوة القادرين والراغبين في الحيّز المنظور للإسهام في الإعداد للفعاليّات المطلوبة واقتراح طرق التنفيذ والأدوات والوسائل للاستثمار الأمثل، والتغطية المادّيّة والإعلاميّة لكلّ منها، وتقويمها، والخدمات الثقافيّة، التي تؤمّنها، مع إشارة ضروريّة- وهذه نتاج تجارب شخصيّة واقعيّة ملموسة- إلى أنّ الالتزام الأخلاقيّ والقيميّ للريفيّين، ومتابعتهم، وحماستهم وحيويّتهم ومشاركتهم في التخطيط والإعداد والإرشاد، تكون أميز من قبل الشرائح المتواجدة، (ولا سيّما المتقاعدين منها).
فكلّ موئل ثقافيّ؛ بأيّ تسمية عُرف، يمثّل- أو يجب أن يمثّل- موقع استقطاب مهمّ للطاقات والمواهب والهوايات والمبادرات الثقافيّة المتوافرة، أو التي يمكن أن تتوافر؛ ومحورَ اكتناز بها، ويشجّع وجود الموئل على استمرار ذلك بوتائر أعلى وإيقاع أعذب وأجدى؛ كما يمثّل مختبراً لهذه الموارد، يتمّ فيه مزجها أو جمعها بأيّة طريقة، وإعادة بثّها إشعاعات وضّاءة إلى المحيط القريب والبعيد- ولا شكّ في أنّ هذه مهمّة ومسؤوليّة دائمة لمختلف المشعّات الثقافيّة في المدن والأرياف؛ لكنّها تأخذ حيّزاً خاصّاً وأهدافاً أكثر تركيزاً وتأثيراً في الريف- وتتوقّف فعاليّة هذه العمليّة الثقافيّة المقدّرة وتأثيراتها في الأنحاء، على قدرة هذا المختبر على العمل بأفضلِ شكلٍ، والإنجاز بأكثر جدوى؛ وهذا يتّصل بالشخص أو الأشخاص القائمين على الموئل، وهاجسهم الثقافيّ، واندفاعهم للعمل الثقافيّ، وحيويّتهم في التحرّك والتواصل والدعوة والإعلام والجذب والاهتمام والاحترام… كما يتعلّق هذا بالصلاحيّات المعطاة لهم، والدروب والجهات والفضاءات المتاحة أو الميسّرة لمثل هذه الأعمال؛ إضافة إلى درجة الوعي بأهمّيّة هذا المجال الثقافيّ، وفائدته، لدى المؤسّسات الثقافيّة المعنيّة، والمؤسّسات الأخرى العامّة والخاصّة، التي لا تبتعد كثيراً- أو قليلاً- عن هذا المنحى، ومقدار استعدادها للمشاركة والمساعدة والدعم والتحفيز للتخويض فيه بثقة وجرأة وهمّة وجدّيّة… من دون أن ننسى أنّ هناك بيوتات ثقافيّة تتزايد؛ بجهودٍ فرديّة ومبادرات حقيقيّة وغايات نبيلة، ولا بدّ من الالتفات إليها، من قبل الجهات المعنيّة، وأصحاب القرار والنفوذ والرؤى في النطاق المستهدف؛ للمساعدة على التحرّك الإيجابيّ المأمول.
وعلى الرغم من وجود عدد مهمّ من هذه المشعّات الثقافيّة بمختلف تسمياتها ومرجعيّاتها؛ فإنّ من المهمّ التخطيط لزيادتها، وكلّما كانت الكثافة أكبر، تزايدت احتمالات المشاركة والمشاركين عدداً ونوعيّة، وارتفعت معدّلات الشموليّة والإغناء والإكناز، وكلّ هذا يسهم في زيادة الرصيد المعرفيّ الحضاريّ الإنسانيّ أكثر..
ولا ينحصر عمل الموائل الثقافيّة المتنوّعة، في إقامة النشاطات والملتقيات والمعارض والدورات التثقيفيّة والتأهيليّة، في مختلف الفنون والآداب، وعلى مختلف المسؤوليّات؛ مع أهمّيّة ذلك؛ سواء أكان هذا في مواسم النشاط المقرّرة، أو في المناسبات الدوريّة والعارضة؛ بل يمتدّ إلى سائر أيّام الدوام، وساعاته، وما يمكن أن يفيد المشروع الثقافيّ العام بأيّ شكل، وأيّة وسيلة، معتادة أو مألوفة أو مبتكرة، وليشمل الاستفادة من كلّ من له قدرة على البذل والعطاء، وترغيبه بكلّ الطرق الممكنة والفعّالة.
ولا شكّ في أنّ للإمكانيّات المتوافرة الرسميّة والذاتيّة، والمساحات المتاحة للحركة والفعل والإنجاز، تأثيراً على إيقاع الفعل وتواتره وجدواه؛ كما أنّ هناك آثاراً سلبيّة عل النشاط المطلوب؛ من انشغالات الناس الأخرى؛ سواء أكانت وظائف أو تعليماً وتعلّماً، أو أعمالاً متنوّعة، لا بدّ منها لتأمين العيش الكريم؛ إضافة إلى ظروف البعد والقرب، والتنقّل غير اليسير إلى هذه المراكز ومنها، وخروج المركز بفعاليّاته وتقدِيمه إلى الناس في مناطق تجمّعهم عملاً وسكنى، وما يتطلّبه ذلك من كلفٍ وأعباء، وما يحدّده، أو يفرضه من أوقات وأسماء وعنوانات ومضامين، قد تتكرّر؛ وتتفاوت، وتتعارض مع أحوال الناس الحياتيّة والمعيشيّة والمادّيّة والنفسيّة، وحالات الطقس، الذي قد يقسو أيضاً، من دون وجود وسائل الحصانة المناسبة وسبلها..
ومع أخذ كلّ هذا بالحسبان، واختلاف تأثيراته أو تأثيرات بعضه من مكان إلى سواه، ومن زمن إلى آخر، فإنّ الإيجابيّات المتوقّعة والمنتظرة والمأمولة، تجعل الدوافع أكبر، والإقدام أثمن، والخطوات أبعد، والإيمان أعمق بقدرات كامنة، وطاقات وإمكانيّات لمّا تستثمر؛ كما يجب، ويمكن، والسعي إلى تفعيل كلّ ذلك وتنشيطه، بأيّ حدّ، وأيّ مستوى، من دون النظر المحدود والمحبط إلى المفهوم المباشر للربح والخسارة، حسب ما هو معروف؛ ووضع ذلك في ميزان خاصّ لا درجات للخسارة فيه؛ بل نسب الأرباح المتزايدة، التي يجب أن تتحقّق، وسينجز بعضها، من دون أدنى شكّ؛ لا على الصعيد والحيّز والمستوى القريب والحاضر، بالضرورة، ولا على مجموعة أو شريحة، بعينها؛ بل هو حاصل حتماً على المدى الطويل والأوسع والأشمل، وتصيب شآبيبه مختلف الشرائح؛ وهي بالتأكيد ليست مردوداً مادّيّاً راهناً، مع احتمال توافر هذا؛ ولا مكافآت أو أعطيات عينيّة، قد تقدَّم؛ وهذه ممكنة ومرغوبة أيضاً؛ وإنّما هي زيادة في رصيد الوعي، ونموّ في الجذوع والفروع والأغصان لأشجار الغابة الخيّرة كلّها، وثمرٌ يغذّي المتلقّين ومن يتأثّرون بهم، ويشبع طموحهم للحصول على المعرفة، ويمتّعهم، ويحصّنهم، ويشجّعهم، ويحفّزهم على متابعة السعي النشط إلى المزيد، ويحميهم من الأمراض والأعراض والانحرافات والانعزال والهدر والوهن والقنوط…
لعمري إنّها نتائج حميدة، تستحقّ التفكير الجدّيّ، والعمل النشط، والجهد الحيويّ المُجدي، حسب ما هو متاح، وما يمكن إعداده وتأمينه وتطويره، من أفكارٍ وفرصٍ وكياناتٍ وأدواتٍ وكفاءاتٍ، من أجل الخلاص السعيد القادم.
*شاعرٌ وأديب وقاص
التاريخ: الثلاثاء31-8-2021
رقم العدد :1061