الملحق الثقافي:زهرة عبد الجليل الكوسى :
يُصعب على المرءِ تخيّل خلق الكون، واستحالة أن يُدرك تفاصيل التحوّلات في ذهن وعقليّة إنسان، اتّسع وجدانه بطريقةٍ فرضت عليه أن يحتضن أوجاعه، المتنقّلة من خليّة إلى أخرى، وأن يُجاري كريّات دمه الملتهبة وهي تدور، حاملةً حياته التي يريدها أن تستمر، وبأعصابٍ إنسانيّة، لا يمكن أن تكون حديدية.. فهل القيد غير القيد؟!!. وهل الألم غير الألم؟!!..
لا.. القيد هو القيد، والألم هو الألم.. والقيد والألم يصنعان معجزة خلقٍ آخر، والرابض خلف القضبان متحفّز لخلقٍ جديد، وما الجديد إلا خلقِ معجزة الثبات، ومعجزة التحوّل إلى قنبلةٍ تنفجر في وجه السجّان، في كلّ حين…
إنه قيد وألم الأسير المعتقل في سجون العدو الصهيوني. الحكمة والمقاومة الباقيتين، ما بقيت الكرامة تذكّر السجّان، بأن الأرض مقدّسة، وبأن الحياة تنبع من أنفاسها التي تٌحيي، ولا حياة لمن لا يزود عنها، بروحه ودمه وصرخته: باقية فيّا يا أرضي، وباق فيكِ فلسطيني..
هنا، يتحوّل الأسير المعتقل إلى حكمةٍ متحفّزة لإبداء وعيها، ومقاومة متوثّبة لبدء تمرّدها، وصولاً إلى انفجارها في وجه من يسعى إلى خنقها وإخماد صوتها..
هكذا أراه، وأرى مفاتيح الحياة لديه، مخبّأة في جحيم ذاكرةٍ، تلهبه كلّما حاول الدخول إليها، والتماسِ التفاصيل الكامنة فيها..
السجّانون لا يريدون له حتى أن يبتسم، فتظلّ ابتسامته معلقّة ما بين روحه وشجاعته، لا يُسقطها أو يبتلعها، فهي لدى عدوّه سلاحٌ يغيظُه به المقاوم، لذا يخشى من انفلاته وغضب حكمته، على سجّانه الظالم…
هل حقّاً يبتسم الأسير؟!!!
نعم يبتسم، لا يبالي بالعقوبة التي تنتظره، لطالما قاوم وواجه بأقوى وأضعف ما يملكه..
هل ترعبهم ابتسامته إلى هذا الحدّ؟!!..
نعم ترعبهم، فهي تحمل من الخفايا والأسرار والأحلام، ما يُقلق السجّان الذي لا يملك ما يحمله، إلا وضاعته في تنفيذِ أوامر عدوّ جبان…
ليس هذا وحده من أساليب التحدّي التي يواجه الأسير بها سجّانه، فهو ومن لحظة اعتقاله، يسعى لإشعاره بأنه قد تمكّن منه، وبأنه سيكمل حتى وهو خلف قضبان المُعتقل، النضال الذي بدأه..
يقبع صامتاً في زنزانته، ويدخل في سكينةٍ صوفيّة، تجعل من الصعب معرفة بماذا يفكّر، أو كيف بالإمكان إخضاعه وكسر إرادته وشجاعته.. يحاول المحقّق استنطاقه، بكلّ الأساليبِ المنكرة والمتنكّرة، لكنه يخرجه عن طوره، فيفقده القدرة على التركيز، ما يمكّنه من التفوق عليه، مثلما على أوجاعه الروحيّة والنفسيّة والجسديّة.
في لهبِ هذه المواجع والضغوط المختلفة، لا يغرق الأسير في الألم كلّياً، بل يحاول الصمود وإخضاع هذا الألم، باجتماعاتٍ يكرّسها للمحاضرات والتحريض والترفيه، وسوى ذلك مما يتنصّت السجّان لفهمِ ما ورائه، دون أن يتمكن من قراءة الحركات والإشارات والمفردات، التي تغمز للأسرى، بأن الهدف لن يحيد عن اتجاهاته الوطنية.
يَسرُّ الأسير هنا، أن يرى سجانه يبحث دون أن يتنفس، عما لا يجده وهو ما يستفزّه أكثر، فعندما يكون المرء في حالة عداءٍ مع آخر، يستفزّ كلّ منهما بأدوات قتاله، ويستعمل كلّ الأساليب والوسائل التي يراها ممكنة لقهر هذا الآخر، أو دحره والتغلّب عليه، ولمّا كان الاعتقال مواجهة محدودة في مكان معين، ولحظة زمنيّة محدّدة، فإن على المعتقل أن يُطالب بحقٍّ أو أكثر، من حقوقه الإنسانيّة. لكن، وفي حالة الرفض، هناك سلاحٌ يمكن استخدامه، بعد المطالبة والتفاوض، وتدخّل هيئات دوليّة أو محلّية؟.
يصبح هنا الإضراب، هو الحل الوحيد، على الرغمِ مما يحمله من خطرٍ على الأسير، وأهميّة هذا الاضطراب، أنه يُوصل إلى هذا الخطر. ذلك أن إدارة السجن، تحاول سراً تهريب بعض المواد للمعتقلين، ليتوقفوا عن إضرابهم، لكنهم لا يتوقفون، ما يضطرّ الإدارة إلى التفاوض معهم، وهنا يتحوّل الضعف والخطر على الحياة، إلى سلاحٍ يحمل القوة ذاتها، أي إلى مرحلة توازي قوّتين، وانتصار إرادة الضعف على إرادة القمع..
يا ترى هل هذه المعادلة مُقنعة؟. وهل يشعر الأسير هنا، بأن قهره وضعفه، قد انتصرا فعلاً، على إرادة القمع؟!…
يقول علماء النفس، في نظرياتهم المتكرّرة، إن القهر والعذاب والاضطراب، عواملٌ تؤدّي إلى خلق نوعين من الإنسان في المحصّلة:
النوع الأول: هو الإنسان “السّادي” الذي يُسقط معاناته وظُلمه وحرمانه على الطرف الآخر، ولا ينفكّ عن إيقاع هذا العذاب، إلا باستسلامِ الطرف الآخر، واعتراف الضحيّة بتفوّق السادي وقوّته..
النوع الثاني: هو الإنسان “المازوخي” أو “المازوشي” وهو الذي يُسقط معاناته على نفسه تحديداً، ويتلذّذ بعذابها خوفاً من إسقاط هذا الألم على “الضحية” تحسّباً من ردّات فعلها التي يمكن أن تكون جارحة وقاتلة “للمازوخي” نفسه. لذا نراه يُؤثر تعذيب نفسه، على تعذيب الآخر.
فأين هي إسقاطاتُ الإنسان المقهور، التي تحدّث عنها علماء النفس، لدى الأسير في معتقلات العدوّ الصهيوني؟!!..
لا جواب.. لأن واقع الأسير الملموس، يقرُّ بعده عن الأثر السلبيّ الذي خلفه السجن، ولو دقّقنا بسلوكه داخل السجن، لوجدنا أنه من المنطق والعدل، إنصافه بعيداً عن خطأ التحليل والتركيب الذي يقع به البعض، إمّا لقصورٍ في الفهم وضيقٍ في الأفق، وإما نتيجة ضغائن وأحقاد لا مبرّر لها، فالإنسان الذي يحمل في طيّاته جذور الأخلاق الوطنية، بكلّ امتداداتها النقيّة والراسخة، لا يمكن إلا أن يكون أكبر من الفلسفة الوجوديّة، والميتافيزيقيّة أيضاً..
إن الألم الذي يعيشه ويكابده الأسير، يعتصر منه سلبيات نفسه، ويُطهّرها من شوائب الأنانيّة التي تسكن في جوفها.
هنا، يكون ألمه إيجابيّاً، وليس هدّاماً كما قرّر علماء النفس، والإنسان الذي أجروا عليه تجاربهم، هو إنسانٌ نما في الهواء، فالمصائبُ الكبيرة لا تكفي بأن تخلق الإنسان السلبي، أو تصنع الإيجابي، فما هي إلا إعصارٌ يقتلع أهواءنا ورغباتنا، لتبقى ثوابتنا جليّة وواضحة للعيان، بعد هدأة الإعصار، وإن أدّت إلى اقتلاعنا، فلا ثوابت لدينا، ولا نحنُ جديرون بالحياة..
التاريخ: الثلاثاء31-8-2021
رقم العدد :1061