حروبٌ ثقافيّة أميركيّة.. لتدميرِ عقولٍ تبني ما بعد الهلاك

 

الملحق الثقافي:هفاف ميهوب:

تشير مؤلّفة كتاب “الحرب الباردة الثقافيّة”، الباحثة والكاتبة البريطانيّة “فرانسيس ستونر سوندرز”، إلى أن الولايات المتحدة الأميركيّة، كانت قد كرّست، ما بعد الحرب العالميّة الثانية، موارد واسعة من أجل برنامجٍ سرّي للدعاية الثقافيّة، في أوروبا الغربية، وبهدفِ محاربة الشيوعية بجميع الوسائل الثقافية، وعبرَ حملةٍ كانت حريصة جداً، على جعل برنامجها كأن لا وجود له، لأن من يديره ذراع التجسّس السريّة لأميركا، أو وكالة مخابراتها المركزيّة، وقد كانت ركيزة هذه الحملة “منظمة الحريّة الثقافيّة”، ومديرها رجل مخابرات أميركي، ولها مكاتب في 35 دولة، وتصدّر أكثر من 20 مجلة ذات نفوذ، وتنظّم المعارض الفنيّة، وتملك مؤسّسات إعلاميّة، وتعقد مؤتمرات دوليّة، وتكافئ الفنانين والموسيقيين، وتشرف على معارضهم ولوحاتهم، ومهمتها الأساسيّة، تنبيه المثقفين في أوروبا الشرقية، بأن يفيقوا من بقايا افتتانهم بالماركسيّة والشيوعيّة، ويتوجهوا إلى رؤية “الأسلوب الأميركي”…
لقد لعبت وكالة المخابرات الأميركية CIA دوراً خفيّاً، في صياغة الحياة الثقافيّة والفنية في الغرب، وتوجيهها واستخدامها في الصراع معه، وهو ما مهّد الطريق أمام السياسة الخارجيّة الأميركيّة، التي تمكّنت من تكوين شبكة محكمة من البشر، الذين يعملون بالتوازي مع الوكالة، للترويج لفكرةٍ مفادها، أن “العالم بحاجة إلى سلامٍ أميركيّ، وعصر تنويرٍ جديد، وأن ذلك سوف يسمّى القرن الأميركي”…
أعتقد أن “سوندرز”، ما أرادت من هذه المقدّمة، إلا تبيان المدى الذي وصلت إليه شبكة التجسّس هذه، وتدخّلها ليس فقط في الشؤون الثقافيّة لحلفائها الغربيين، وإنما أيضاً، في شؤون كلّ العالم الذي كانت تخطّط لوضعه على رقعة شطرنج، لتكون اللاعب الأساسي، والموجّه لعقولِ وأفكار وإبداعات المثقفين والفنانين..
ترسانات ثقافيّة أميركية.. بدعوى التنوير
ويستمرّ اللعب، ودوماً توسّع أميركا دائرة هيمنتها، وتزيد أعداد اللاعبين، ممن أخذت على مدى طويل الأجل، توجّه وتنظّم جبهاتهم الثقافيّة، في معركة ثقافيّة عريضة، تديرها وكالة استخباراتها.
تارةً توجّه صوبهم هدير مدافعها، وقنابل طائراتها، وأخرى تهديهم ترسانات ثقافيّة، بدعوى التنوير الذي لم يكن إلا نيراناً أشعلتها في وجودهم وأوطانهم، وتركت رمادها في عقولهم وأفكارهم…
هنا، تسلّط “سوندرز” الضوء، على قيام وكالة الاستخبارات الأميركية، باستلاب عقول النخب المثقفة، التي رأت أن عليها توجيهها، لأن هذه “النخب هي القادرة على بناء ما بعد الهلاك”، وهي إن لم توجّهها حسب مصالحها، ستلاقي الكثير من المعارضة والمواجهة، وقد سعت في سبيل ذلك إلى ما قال عنه الكاتب الأميركي “آرثر ميلر”: “كانت الولايات المتحدة، تتصرّف مع أصغر حزب شيوعي في العالم، وكأنها على شفا حربٍ دموية”.
سلّطت “سوندرز” الضوء أيضاً، على عجز أميركا ورغم محاولاتها بسط سيطرتها على العالم، عن تحقيق الحريّة الثقافيّة، إلا بأثمانٍ غالية جداً، فقد كان على المخابرات المركزيّة الأميركيّة، وضع عشرات الملايين من الدولارات، لمنظمة الحريّة الثقافيّة، والمشروعات المتّصلة بها، وبمثل هذا النوع من الالتزام، “كانت الـ CIA فعلاً، بمثابة وزارة ثقافيّة لأميركا، ولم يكن سلاحها أخلاقياً، فقد سعى إلى “تعبئة الثقافة كسلاح في الحرب الباردة، فتنظيمها الدقيق لشبكة من العلاقات المستقلّة، أو الأصدقاء، في اتّحادٍ يقوم على تحالف “مقاولات” بين مؤسّسات خيريّة وأخرى، لتوصيل برامجها السرّية في أوروبا الغربيّة، إضافة إلى ذلك، كان يمكنها الاعتماد على هؤلاء الأصدقاء، لتوضيح وترسيخ معالمها وأهدافها، داخلاً وخارجاً، وهم حقيقة عبارة عن رأسماليين يقومون بالمضاربة، خلال الحرب الباردة..”.
تقدم “سوندرز” التي بدأ اهتمامها بهذا الموضوع عام 1993 وعندما قرأت مقالاً يزعم أن وكالة المخابرات الأميركية، كانت وراء نجاح “مدرسة نيويورك” في الفنّ، الكثير من الأدلة، التي راحت تبحث عنها، إلى أن امتلكت مادة أرشيفية ضخمة، جمعتها اعتماداً على المقابلات الشخصيّة، الوثائق الرسميّة، المفكرين والباحثين والفنانين، المسؤولين والعملاء السابقين للوكالة، ممن قدّموا لها إثباتات، كشفت بها الجوانب المظلمة من تاريخ أميركا الثقافيّة..
أمثلة عديدة تقدمها، عن “تسلل صور مرعبة للبرابرة، إلى “قصر الفنّ الراقي”، وخيال النخب الثقافية عموماً، ذلك أن الكونغرس الأميركي، أكّد وفي أكثر من معرض فنيّ، تلك المقولة، رغم رغبته أن يُظهر للعالم، أن لديهم فنّاً متكافئاً مع عظمة أميركا وحرّيتها، وهو ما عجز خبراء الاستراتيجيّة عن تأييده ودعمه، بسبب المعارضة الداخليّة، ما اضطرّهم للجوءِ إلى وكالة استخباراتهم، ليكون الصراع هنا بأعلى وأشدّ درجاته، ذلك أنها لجأت إلى القطاع الخاص لتحقيق أهدافها، ما جعل مجمل المتاحف، والمجموعات الفنّية في أميركا، وكما هي الآن، ملكيّة خاصة، وتموّل بشكلٍ شخصيّ، ومتحف الفن الحديث في نيويورك، الذي هو من أهم المتاحف الفنيّة، الطليعيّة والمعاصرة، خير دليل على ذلك”.
تتوالى الأسماء والروابط، وسلسلة الاتصالات، تذكرهم “سوندرز” جميعهم، وتكشف علاقاتهم واتّصالاتهم مع الوكالة، وسواء العلنيّة أم السرّية، التي فضحها فنانون كثر، استحضرت الكاتبة أقوالهم ومواقفهم التي فضخت العلاقة ما بين الفن والوكالة، وسعيهما الدؤوب لتحسين صورة أميركا في العالم…
لم يقتصر الاختراق والتوجيه على الثقافة والإعلام والفن، بل تجاوزه إلى الأدب، ولم يكُ كُثرٌ من الكتّاب والمثقفين، يعلمون أنهم يشاركون في مشروعاتٍ وأعمالٍ تمولها المخابرات الأميركية، وعندما اكتشف البعض ذلك اعتزل عمله.
اعتزله خاصة، عندما تأكّد له بأنها تلاحق الكتب والكتّاب والمثقفين، وتأخذهم بالشبهة أو لمجرد رأي سياسيّ أو موقف فكري، فـ “الكاتب الألماني الشهير “توماس مان” الحائز جائزة نوبل، تعرض لاضطهادٍ وتجاهل، وكانت منظمة الحرية الثقافية، وراء عدم فوز شاعر تشيلي “نيرودا” بجائزة نوبل عام 1964، ثم قتلته المخابرات الأميركية عام 1973. أيضاً، كانت وراء إخضاع “همنغواي” للمراقبة والتحقيق حتى أصيب بالاكتئاب وانتحر.
إغماءةُ الحربِ الباردة.. في أميركا المريضة
شيئاً فشيئاً، بدأت أسلحة هذه الحرب تتهاوى، والأوهام التي قامت عليها تنكشف.. تتوالى الكتب والروايات التي تكشف حقيقتها، بدءاً من كتاب “الجاسوس العائد من الجليد” الذي كتبه دبلوماسيّ في السفارة البريطانية، مستخدماً الاسم المستعار “جون لوكاريه”، والذي أصاب بكتابه، وكتاب “الأميركي الهادئ” لـ “غراهام غرين”، مجتمع العمل السريّ بأكمله بالفزع..
بعد ذلك، جاء فيلم “دكتور سترانجروف”، فكان بمثابةِ هجاءٍ لجنون إيديولوجيّة الحرب الثقافية الباردة، وقد قال عنه الفيلسوف الأميركي “لويس ممفورد”: “إنه إغماءة لبلدنا المريض، والذي يفترض أنه ديمقراطيّ وأخلاقيّ”…
أمثلة كثيرة تقدمها “سوندرز”، لهؤلاء الكتّاب وغيرهم، وجميعهم أكّدوا ما أكّده أبناؤها، ومنه أيضاً الأديب “جوزيف هيللر” الذي رأى: “ما تعتبره أميركا صحة عقلية، ليس سوى الجنون الحقيقي”..
ما رآه أيضاً “سيدني هوك”، الذي دفعه انزعاجه من العبث الذي استشرى في أميركا، للقول: “أما في أميركا، فإن سياسة العبث، هي أحدث عبثٍ بين المثقّفين، وشعاراتها: تسقط أميركا.. لقد فاحت رائحتها الكريهة..”.
إنه ما زاد من انكشاف تورّط وكالة الاستخبارات الأميركية، في الحياة الثقافية وديمقراطيّتها العبثيّة.. انكشف ذلك خاصة، لدى المثقفين والكتّاب والباحثين الأكثر شهرة وتأثيراً، في العالم بأكمله.
هؤلاء، شعروا بالاستياء الشديد، من عدم إحساس بعض المثقفين الذين ساعدوا أو حرّضوا، أو أيدوا وشاركوا، في “التلاعب الثقافي” الذي شاركت به الـCIA.
إنها النهاية لـ “منظمة الحرية الثقافيّة” ومديرها واستخباراتها، والذين ساعدوها وأيدوها في إدارة أعمالها.. إنه أيضاً، ما دفع أحد النقّاد للتساؤل: “باسمِ ماذا كان كلّ ذلك يتمّ؟.. حتماً، ليس باسم الأخلاق والفضائل الإنسانيّة، بل باسمِ السيطرة، والهيمنة الأميركيّة”…

التاريخ: الثلاثاء14-9-2021

رقم العدد :1063

 

آخر الأخبار
بمشاركة سورية.. انطلاق فعاليات المؤتمر الوزاري الرابع حول المرأة والأمن والسلم في جامعة الدول العربي... موضوع “تدقيق العقود والتصديق عليها” بين أخذ ورد في مجلس الوزراء.. الدكتور الجلالي: معالجة جذر إشكالي... بري: أحبطنا مفاعيل العدوان الإسرائيلي ونطوي لحظة تاريخية هي الأخطر على لبنان عناوين الصحف العالمية 27/11/2024 قانون يُجيز تعيين الخريجين الجامعيين الأوائل في وزارة التربية (مدرسين أو معلمي صف) دون مسابقة تفقد معبر العريضة بعد تعرضه لعدوان إسرائيلي الرئيس الأسد يصدر قانوناً بإحداث جامعة “اللاهوت المسيحي والدراسات الدينية والفلسفية” الرئيس الأسد يصدر قانون إحداث وزارة “التربية والتعليم” تحل بدلاً من الوزارة المحدثة عام 1944 هل ثمة وجه لاستنجاد نتنياهو بـ "دريفوس"؟ القوات الروسية تدمر معقلاً أوكرانياً في دونيتسك وتسقط 39 مسيرة الاستخبارات الروسية: الأنغلوسكسونيون يدفعون كييف للإرهاب النووي ناريشكين: قاعدة التنف تحولت إلى مصنع لإنتاج المسلحين الخاضعين للغرب الصين رداً على تهديدات ترامب: لا يوجد رابح في الحروب التجارية "ذا انترسبت": يجب محاكمة الولايات المتحدة على جرائمها أفضل عرض سريري بمؤتمر الجمعية الأمريكية للقدم السكرية في لوس أنجلوس لمستشفى دمشق الوزير المنجد: قانون التجارة الداخلية نقطة الانطلاق لتعديل بقية القوانين 7455 طناً الأقطان المستلمة  في محلجي العاصي ومحردة هطولات مطرية متفرقة في أغلب المحافظات إعادة فتح موانئ القطاع الجنوبي موقع "أنتي وور": الهروب إلى الأمام.. حالة "إسرائيل" اليوم