الملحق الثقافي:ثراء الرومي:
لم يكن يوماً عاديّاً، بل كان حافلاً بأوديسّاتِ الأوجاع، من انتظارٍ لحافلةٍ يكاد ركابها يصعدون إليها من النّوافذ، بل يكادون يصعدون سطحها أسوةً بباصات الزّمن الغابر، وصولاً إلى سيّارات أجرة (تاكسي) تطلبُ أرقاماً خياليّة لتقلّ راكبيها إلى أقرب المسافات.
استقلَّيتُ سيّارة الأجرة واهبةً نفسي فرصةَ رفاهيةٍ قسريّةٍ أمام انتظارٍ دهريّ قد يطول لساعاتٍ دون أمل منشود، وحيث ترجَّلْتُ منها ووقفت من جديد أنتظر الحافلة التي ستقلّني إلى منزلي رأيتُه. ملامحه الطّفوليّة البريئة تشي بعمرٍ لا يتجاوز الثّالثة عشرة. شابٌّ صغير يقف أمام عربة (طبليّة) يبتاع منها المارّة مختلف الحاجيّات، من قرطاسيّة وأدوات منزليّة وشخصيّة بسيطة.. دماثة خلقه البالغة أشعرتني أنّه لا ينتمي إلى هذا المكان بأيّ حالٍ من الأحوال، وصغر سنّه استفزّ في داخلي سؤالاً لم أتردّد في طرحه عليه: «ألا يُفتَرَضُ بك أن تكون في المدرسة؟».. وبغمضة عينٍ بدت لي ملامحه أشبه بملامح كهلٍ طاعنٍ في الأسى: «للأسف، تركتها منذ كنتُ في الصّفّ الخامس.» وأمام نظرتي المصعوقة لم ينتظر منّي المزيد من الاستفسارات، بل لعلّه كان ينتظر سؤالاً كهذا ليسكب ما في جعبته من مرارة وألمٍ أمام عابرة سبيلٍ صادف أن طرقت باب مأساته بسؤالها: «كانت أمّي تعمل، وتتولّى مصاريف المنزل، ولكّنها خلال الحرب تعرّضت لإصابةٍ أقعدتها تماماً منذ ثلاث سنوات، فاضطررت لترك المدرسة لأعيل أسرتي وأمّي العاجزة.»
أمام سيل كلماته الجارف اجتاحتني موجةٌ من الدّموع التي بالكاد سيطرت عليها وأنا أتأمّل ملامحه الشقراء، وأسنانه المتراكبة على نحو مميّز وهو يحدّثني عن حلمه الدّراسيّ الذي بات هباءً: «قد يجد بعض الأولاد في وضعٍ كوضعي فرصةً للتّهرّب من أعباء الدّراسة، ولكنّني أصارحكِ أنّها غصّة عمري.»
أردتُ أن أقول له إنّ الغصّة ابتلعت كلّ ما يمكن أن يُقال من كلمات. ولكنّني اكتفيت بهزّ رأسي ببالغ الأسى، واشتريت منه بضعة حاجيّات بعد أن علمت أنّه ليس سيّد هذه العربة حتّى، وتمنّيت عليه أن يعود إلى المدرسة في أيّة فرصةٍ تُتاح له: «أتمنّى أن أسأل عنكَ قريباً، ويقال لي أنّكَ عدتَ إلى مدرستك. إيّاكَ أن تقول لنفسك أنّ الوقت قد فات.»
لم أترك المكان قبل أن أسأله عن اسمه الكامل، وقد انتابني شعور أنّ القدر ساقني إلى هذا المكان، ودفعني لحديثي العابر معه لأكون سفيرة غصّته العملاقة، فأنقلها بكلّ الوجع الذي يعتريها. إنّه نداء إلى أصحاب الأيادي الخيّرة، عساها تمتدّ لتنتشل هذا الفتى وسواه من براثن ضياعٍ يدرك حجمه تماماً. فكم من حالات مماثلةٍ أفرزتها هذه الحرب اللّعينة، وكم من حالاتٍ على اختلاف درجاتها تسبّبت في اندلاع هذه الحرب، أفلا نعتبر؟!
كلّما تذكّرتُ ملامح الأسى التي فاضت بها عباراته أجهش بالبكاء وأنا أسأل نفسي: «هل ثمّة منقذون له ولمن يشاركونه أساه أو يشاركونه وضعه غير مدركين لعواقب الجهل الذي فرضته عليهم ظروف الحرب؟.. هل ثمّة من يلقى هذا النّداء لديهم آذان مصغية؟ سوريّتنا الغالية تستحقّ كلّ الوفاء، وبتقديري جزءٌ كبير من هذا الوفاء، يكمنُ في المبادرة باحتضان أبنائها بحنان الأمّ.. عسى الأيادي البيضاء تمتدّ لأمثال هؤلاء ممّن طحنت رحى الحرب حياتهم، ولا ذنب لهم وهم أبناء الحياة.
إن أردنا أن نعيد بناء سوريّتنا الجريحةِ بحقّ، فعلينا أن نعير كامل اهتمامنا لهذه الشّريحة من أبنائها ممّن فقدوا أباً أو أمّاً أو كليهما، واختاروا لقمة عيش مغمّسة بالوجع ليعيشوا وأُسَرَهُم أدنى مقوّمات الحياة الكريمة، بعيداً عن التّسوّل أو ما سواه من أشكال الذّلّ والحاجة، ولكن أيضاً بعيداً عن العلم الذي ضاقت سبلهم إليه بل تعثّرت. إن لم نبدأ إعادة الإعمار من هذه اللّبنة، فأخشى ما أخشاه أن يكون للحربِ صولاتٌ وجولات أخرى، وساحات أشدّ فتكاً في القادمات من السّنين. بالعلم نبني كلّ ما تهدّم، وبمحاربة الجهل ننهض من مهاوي الحرب الجائرة ونعلن أعتى انتصاراتنا.
إنّها ليست مجرّد مادّة إبداعيّة أو صحفيّة، بل هي صرخة مجتمعيّةٌ مدوّية أتمنّى أن تلقى صداها، فالاستجابة العاجلة لها هي بداية شعورنا أنّنا سنكون وسوريّتنا بخير.
التاريخ: الثلاثاء14-9-2021
رقم العدد :1063