الملحق الثقافي:محمد الحفري *
نال الأدب الوجيز في الآونة الأخيرة اهتماماً كبيراً، واحتلّ مساحة غير قليلة في الصحف الورقية، وكان حضوره الأبرز على صفحات التواصل الاجتماعي، والأدب الوجيز قد لا يقتصر برأينا على النثر والقصة القصيرة جداً، وقصة الومضة والقصيدة القصيرة “والهايكو”، لكنه قد يشمل كلّ كتابة تنحو إلى الكثافة والإيجاز والاختصار والترميز، وغير ذلك من الصفات.
قد يكون للقصة القصيرة جداً، أو ما يطلق عليها مصطلح “ق ق ج” الحظ الأوفر في الحضور، مع أنها تأخّرت قليلاً مقارنة بدول أخرى كالعراق مثلاً، التي صدرت فيها مجموعات من هذا النوع، منذ السبعينيات من القرن المنصرم، وربما قبل ذلك أيضاً، ونحن لا ندري الأسباب التي أدّت إلى تأخرها في الوصول إلينا، لكننا نعتقد أن ذلك يعود إلى صعوبة إنتاج هذا الفن أولاً، وعدم الاعتراف به من قبل بعض الجهات المعنية بالأمر، كاتحاد الكتاب ووزارة الثقافة، على سبيل المثال.
كلامنا قد يعني الماضي إلى حدّ كبير، أما في الوقت الحاضر، فقد ظهرت على الساحة الثقافية السورية، أسماء كتبت الـ “ق ق ج” بكلّ جدارة، ومن هذه الأسماء “يحيى فارس أبو حليس، فهد حلاوة، خضر الماغوط” ومنهم أيضاً، مؤلف مجموعة “نافذة بلا جدار”، الدكتور “محمد ياسين صبيح” الذي يتولى الآن رئاسة رابطة القصة القصيرة جداً في سورية، والرابطة بدورها قدمت الكثير من النصوص والأسماء، التي كتبت في هذا المجال.
يكاد عنوان هذه المجموعة، ونقصد “نافذة بلا جدار”، أن يشكّل قصة مستقلة بحدّ ذاتها، لكنها في الآن ذاته، تخصّ المجموعة بأكملها، من حيث رمزيتها العالية، ومضامينها وعناوينها الداخلية.
لا يعقل أن تكون النافذة بلا جدار، وكيف يمكننا أن نقف أمامها ونطلُّ منها؟. وهل يمكن لها أن تكون سوى ذلك الفضاء الواسع، الذي نكثفه بكلماتٍ محدودة، وخاصة أن المؤلف لديه تجربة طويلة مع هذه الكتابة، ومعاقرتها والتنظير في فنِّ كتابتها؟..
هذا يستدعي الجزم والقول، لا يوحد نافذة ولا جدار أساساً، بل نحن أمام سهول وجبال ووهاد واتساعٍ في وجهة النظر، وأفق لا يحدّه حدّ، وبرأينا وفي الـ “ق ق ج” على وجه التحديد، كلما قلّ عدد الكلمات وكانت الجمل مكثفة ومقتصدة، كلما اتّسع الأفق وزاد، وهذا ما فعله الكاتب عندما فتح مسارات قصصه على كلّ الأمداء.
وفي العودة إلى مسألة الاتساع والتعالق مع العنوان الرئيس، نأخذ القصة الأولى من المجموعة، والتي تحمل عنوان “هاجس” حيث يقول فيها: “يجتاحه القلق.. جسده يملأ أرض غرفته الوحيدة.. توارى الأصدقاء والغربان.. وحده المفتاح في يديه .. لم يجد له باباَ”، وفي النصّ الثاني الذي يحمل عنوان “ناي” يقول: “كان صوت الراعي يطرب الأشجار والحقول، والقطيع يستسلم لجوعه المعتاد، لكن نايه القديم بقي صامتاً وحزيناً، يحنّ إلى ساقية القصب”.
بطبيعة الحال، كنا نتمنى لو أن المساحة تتّسع لأخذ المزيد من الأمثلة، لكن يجب علينا الإشارة باختصار إلى أمرين، أولهما مسألة الكثافة النصية، والفراغات المتروكة لتأويل قارئٍ متبصّر، وثانيهما الدلالات ومراميها البعيدة، وبالتالي العودة ثانية لنفي وجود النافذة والجدار معاً، وقد يأخذنا التأويل أن صاحب هذه النصوص وحده من تسيّد البطولة، حين حمل مفتاح بابٍ غير موجود في المثال الأول، ولعله بذلك المفتاح يقصد تلك الموهبة التي يمتلكها القاص والكاتب عموماً، لفتح أقفال النصوص وفكّ رموزها وفلسفتها، وما تحمله من معانٍ.
هذه المجموعة القصصية، هي بحقّ من الأعمال التي يمكن أن نشير إليها بإعجاب، وذلك لما تحمله من متعة هذا الفن، والفائدة التي قد تأتي ثانياً وربما ثالثاً أيضاً.
الشيء المستغرب حقاً، وجود ثلاث “تقديمات” أو كتابات عن المجموعة، وهي في أولها ونهايتها وعلى الغلاف أيضاً، وأصحابها على التوالي هم “المصطفى المعطاوي” من المغرب، و”علي الراعي” من سورية، و”شريف عابدين” من مصر. هذه الملاحظة ليست على هذه المجموعة وحدها، بل تكاد تكون عامة، وعلى الكتابات التي اختصّت بالأدب الوجيز، أو ما وقع بين أيدينا في مجال القصِّ القصير جداً، وأنا إلى الآن لا أدري ما الذي يدفع الكتاب إلى ذلك؟..
هل يريدون بذلك، التدليل على ما هو موجود، وإثبات ما هو مثبت أصلاً؟! ونحن نعتقد أن مقدمة واحدة تكفي وتزيد، والنصّ الجميل سيدلّنا ويهدينا إليه، وحتماً لحديثنا بقية عن هذا الأمر، في القادمات من الأيام.
*كاتب روائي ومسرحي
التاريخ: الثلاثاء14-9-2021
رقم العدد :1064