الملحق الثقافي:علاء حمد *
ما نراه في الجذورِ من وصفاتٍ، للتحقيقِ حول المحسوس، وعلاقته بجسدِ الذات.. فلو نظرنا بشكلٍ منفصل لحركة المحسوس، سوف نصل إلى أنه يقيم بعض العلاقات، حتى مع العالم الخارجيّ، ويكوّن عالمه الخاص، كما الذات عندما تتحوّل بتكوينِ عالمها الخاص..
من هنا نستطيع القول، إن المحسوس أيضاً، قابل للتغيير، فيصبح لدينا المحسوس الطبيعي الذي نتعامل معه بشكلٍ يومي، والمحسوس الآخر الذي تبدّل وانساق نحو الخيال، ليجد ضالته في عالمٍ مستقل، وينساق نحو الجمل الشعرية.. وهو يؤثر في طبيعة حاله على الذات بتغييرها، لأن علاقته بالذات علاقة ديناميكية، ومن خلال هذه التحولات، يصبح لدينا (المحسوس + الذات) لنخرج بمعادلة حسية، نستطيع القول عنها (الذات الحسية)، ونستطيع أن نفصل بينهما أيضاً (المحسوس + الذات) من خلال الزمنية، وهي اللحظة الزمنية ومدى التقاء المحسوس، الذي يعبر تلك اللحظة وينتمي إلى الذات، بينما الذات تحوي تلك المساحة للمحسوس، فتحضنه كما تحضن الأم طفلها، ومن خلال التجانس الحسيّ والذاتيّ، تتجانس العوالم أيضاً، ويسبحان بعالمٍ واحد، وهو العالم المتغيّر بالنسبة إليهما، عالم الجنون الخلاق الذي يؤدي إلى ما وراء الواقع، من خلال الأعمال النصيّة للشاعر، فاليقظة التي تعلنها الذات؛ هي يقظة كلية تناسب الجسد الشعوري، وكيفية التفكّر الشعوريّ أيضاً، وكذلك التفكر الحسّي، فالمحسوس يترك بعض الآثار حتى من خلال تحوّله مع الذات وانضمامه الكلي، وهذه الآثار هي آثار ديناميكية في بعض الأحيان تخرج عن الشعور، وكذلك تخرج عن التفكر الحسيّ.. فموضوع التفكر الحسيّ والتفكر الشعوريّ، يلتقيان بحدثٍ غير محدد، فالأول عادة يكون داخليّاً – خارجيّاً، بينما التفكر الشعوريّ، فهو داخلي بالمعنى الذي نقصده، فالمشاعر لا تخرج إلى الخارج، ولا يستطيع المرء أن يشعر كما يشعر صاحب الحدث شخصياً؛ بينما يستطيع أن يحسّ به، ويميل إلى محسوسه، وهنا من الممكن جداً تصدير المحسوس إلى الخارج، متجانساً مع الآخرين ولو بشكلٍ جزئيّ، فالإمكانية التجانسية متواجدة.. لذلك تؤثر هذه التفكرات في اليقظة الجسدية، ومن خلالها هناك اتصالات غير قصدية بين حركة الجسد والتفكر الحسيّ والتفكر الشعوريّ، فالاختلاف الذي يحدث، اختلاف ما بين مرحلة الدخول إلى جسد الذات، وما بين النتيجة التي من خلالها من الممكن جداً، التوصّل إلى مدى جاهزية الذات بيقظتها نحو منهجها التأسيسي، لأنها تهمنا من خلال اتجاهاتها الحركية.. فالمحسوس ومن خلال بنيته الأبستيمولوجية، يطارد الملموسات عادة، وهي تلك المبصَرة أيضاً، ما يجعل للبصرية يقظة أخرى، من خلال المحسوس ويقظته، ويقظة المحسوس يقظة صفاء خارج الفوضى، مما يلازمه الهدوء عادة، وهو باشتغالاته المستمرة التي لا تتوقف حتى من خلال الأحلام..
إنّ يقظة الجسد، يقظة تنشيط من خلال المحسوس الذاتي، لذلك، ومن الطبيعي أن تؤثر أيضاً اليقظة الجسدية، في الجزء قبل الكلّ.. فحركة الذات نحو الجسد، حركة ديناميكية لاشعورية، وفي حالة توقف هذه الحركة، نكون قد فقدنا بعض الزوايا الجسدية التي تهتم الذات بها بشكلٍ لاشعورياً.. مثال على ذلك، عندما يذكر شخص ما اسم الرقبة، فإنّ الشخص المقابل سيتحسّس رقبته دون أن يشير إليها، وكذلك بعض الجزئيات من الجسد.. فالإشارة تكون من ضمن إشارة المحسوس الداخلي، وفي بعض الأحيان يتحسّس المرء عينه من خلال التحديق أو فركها، وهذه كلّها إشارات يقظةٍ بالنسبة للذات نحو الجسد.. وهي تشكّل جزءاً من التفكير غير المعلن، وجزءاً من الشعور وديمومته نحو التحسّس، ومثل هذه الأمثلة تدخلنا بمفاهيم غامضة ومفاهيم غير غامضة، فالحركة المعتمدة هي خارج المحسوس، لذلك في بعض الأحيان نميل كتكملة إرادية، نحو الجملة الغامضة والجملة التوضيحية، التي ننسبها إلى حركات غير مقصودة، وخارج التفكر الحسي والشعوري.. إنّ الرمزية القصدية والتي تؤدي إلى الغموض، تكون عادة بحالات تصنيعية، بينما يكون المحسوس بيقظةٍ نحو هذا الاتجاه، وفي طبيعة الحال عندما ترافق الرمزية عنصر الخيال، فسوف تختلف الحالة تماماً، فسوف نكون في مناطق للخيال من خلال حركة المتخيل، وكذلك بمناطقٍ من الجنون الخلاق، الذي ينسى حالات المحسوس إلا بشكلٍ جزئي..
يتحرك المحسوس الذاتي من خلال الممكنات، والممكنات متواجدة بتصادمٍ مع الذات وتتفاعل معها وأمامها، فالمحسوس الذاتي وبشكلٍ لاإرادي، يتحرّك نحو الفعل وردّ الفعل، ولكنه يلتزم بالفعل أكثر، ويميل نحو المؤثرات التي تجابهه، والمؤثرات المتواجدة كثيرة، وهي حسيّة ونفعيّة قبل أن تكون صناعية غير ملتزمة بحدوثها، فالوظيفة الرمزية، هي تلك التي تتعلق بالتفكر؛ وكذلك عندما تميل إلى وظيفة التصوّر، التي غالباً تكون خارج المحسوس، ولكن لها علاقة مع المحسوس التفكري، ولا يمكن أن تُبنى مسافات، بينها وبين الوظيفة الرمزية التي تتعلق بالمحسوس التفكري؛ فالبحث الجاري، هو البحث عن الأصل في الأبعاد التفكرية، التي تميل نحو الشعرية بوسائلٍ عديدة، ومنها الوظيفة الرمزية والوظيفة التصورية؛ وهما هرمان يسعيان إلى التغلب على الذات العادية، من خلال عنصر الخيال الذي له الأهمية الكبرى كوظيفة خيالية، إلى جانب الوظيفتين الرمزية والتصورية؛ فيكون للمتخيل مساحته الحاضرة، ينطلق من خلالها بالبحث والتقصي عن الصور والجمل المدهشة..
يخضع علم الجمال، ومن خلال التفكر الجماليّ، كعنصرٍ مهمّ في التوجهات نحو الشعرية، يخضع إلى المحسوس، فالخضوع هنا يتمثل بالإدراك، فالإدراك الذي نميل إليه هو صورة المدرك للجمالية باعتبار الجمال ملكة، وكذلك المحسوس ملكة.. «المحسوسات كلها تتأذّى صورها إلى آلات الحسّ وتنطبع فيها فتدركها القوى الحاسة».. يضيف «ابن سينا»: كلّ واحدة من هذه القوى «الحاسة» إذا حُقّقت، فإنما تدرك بشبهٍ بالمحسوس، بل تدرك أولاً ما تأثر فيها من صورة المحسوس، فإنّ العين إنما تدرك الصورة فيها من المحسوس. – ص 45- «الإدراك الحسي عند ابن سينا» – د . «محمد عثمان نجاتي»، فصورة العين الجاذبة يتقبّلها المحسوس، لأنها تلك الصورة التي من الممكن جداً اعتماد بهجتها ومؤثراتها، وكذلك عندما نكون أمام الحدث الشعري التأثيري، فيصبح جزءاً من عمل المحسوس كمنظورٍ تأثيري أيضاً.
إنّ الصورة الملتقطة بواسطة العين، يتقبلها المحسوس باعتبارها لا تؤدّي إلا إلى الجمالية، فعندما نتحدث بهذا المجال، فهناك اتجاهات تدفعنا ليس فقط عن عمل المحسوس كعملٍ فعال، وإنما عن جمالية المحسوس بالذات، فالمساحة التي يتحرك نحوها، مساحة الجزء من الكلّ، فنعتبر ذلك من اختياره الجمالي، إذن للمحسوس جماله، وله ردّة فعلٍ بجماليةِ القبح أيضاً، وهذه حالة سلبية في الممكنات النصية، فلا تقع الذات الواعية بهذا الفخ؛ وكذلك لا يقع المحسوس الواعي إلى جانب حركة الذات بفخِّ القبح، ولكن جمالية القبح موجودة، وموجودة في الطبيعة أيضاً، وتواجدها لا يعني أن المحسوس سيتحرك نحوها، لكنها كمتحرر متواجد خارج المحسوس مما تكوّن خارج الالتقاطات الذهنية والعينية، بل كرؤية متحللة في الأفق البعيد من التوظيف كبنية يضع الشاعر محسوسه نحوها، ويتجاوز ممكناتها في التوظيف الفني للنصيّة.
إنّ الذات بمساحتها الواسعة، تستوعب مغامرات المحسوس، وتتقبّل بعض الممكنات، لأنها تشكل عالماً من المعاني، لذلك تميل إلى تقبّل تلك الممكنات الصادرة من المحسوس، وتعمل على توظيف الأهم منها، فعند الشعرية يفقد الشاعر بعض خطوات المحسوس، وتذهب الذات بالبحث عن اللامحسوس ومن خلال هذه الوظائف التعددية واللاتعددية، نستطيع أن ندرج بعض النقاط ما بين تقبل الذات ورفض الذات، ضمن حركة الذات نحو المعاني من جهة، ونحو الأشياء كشيئية محتمة أمام الرؤية من جهة أخرى:
قوّة الآن للمحسوس: ليس هناك قوة للمحسوس بحالة الماضي، فقوة الماضي مع الماضوية، وكما تتطور الذات من خلال تجربتها الذاتية، يلازمها المحسوس بقوته الآنية في التطور أيضاً، وهما يلتقيان في قوة الآن، فقوة الآن هي التحرر الفعلي لقوة الفعل أيضاً.. وهذا التحرر يقودنا إلى مشهدية جديدة، لأننا الآن مع فعل التطور والتغييرات التي تحدث، وهي تحولات فعلية للذات مع قوة المحسوس..
إنّ المتجانسات الحسية واللغوية تعملان ضمن قوة المحسوس الفعلي، وتحت إشارات ضوئية للمحسوس، يمنحها التحرك لهذه المتجانسات، وتكون الذات هي المساحة الملائمة لاحتواء تلك المتجانسات لتسخيرها في قوة المشهد الشعري، وكلما تكاثرت المتجانسات اتّسعت رؤى الذات نحو التأسيس الفعلي للمشهد الشعري؛ وكذلك للمحسوس، تتعاظم قوته عندما تزداد المتجانسات الغريبة والأجنبية التي تقتحم الذات بحسيتها الجديدة، بل يكون مع المعنى والتأويل كمتجانس له أهميته القصوى عند التأسيس المشهدي..
قوّة الفعل: نقصد هنا قوّة الفعل، من ناحية قبوله للممكنات التي من خلالها تتحرك قوّة الفعل الآنية، فهو لا يتقبل كلّ ما يرسل إليه من ناحية العين المحدّقة المرسلة للحدث الشعري، ومن ناحية حركة المحسوس أيضاً؛ فالقوة تتعالى على الأشياء البسيطة التي لا تؤدي إلى قيمة تُذكر في المشهد الشعري، مما تكون الذات بحذر وتعاملها مع هذه القوة المكتومة في الذهنية..
اختلاف المحسوس: يختلف المحسوس إذا كانت قوّة فعله صلبة وذات فعالية عالية، فهو يتحرك نحو النوع من المعاني والتأويلات، ومن هنا نلاحظ قوة الجملة الشعرية أيضاً، ويختلف المحسوس، إذا أصبح كعنصر متماسك مع مجاوراته، لذلك لا يتحرّك إلا بصفاء مفاهيمه المتعددة: كهوية حسية للذات، تفاهمه مع العناصر والمفاهيم الجديدة، ما يبعده عن التكرار إلا للضرورة، والضرورة لها أحكامها بين الفعل التوظيفي في الجملة، وبين تكرار بعض المعاني التأكيدية..
قوّة جسد الذات: التحرك نحو أية قوة جزئية للجسد، لتعطينا نتائج أو إشارات لها دلالالتها في توظيف الصورة الكلية التي تقتبسها الذات، والعمل على تنقية قوّتها، فالصور البصرية منقولة من العالم الخارجي، وتحتاج إلى إعادة النظر بمحتوياتها وتركيبها من جديد. فهناك علاقات ما بين الصور اللمسية – الحسية وبين الصور الذهنية، التي تكون عادة غير خارجة، وهي في طريقها للتوظيف.
*ناقد وشاعر عراقي
التاريخ: الثلاثاء14-9-2021
رقم العدد :1064