الثورة أون لاين – سلام الفاضل:
قد لا نأتي بجديد إذا قلنا إن هناك هيمنة غربية على العالم منذ قرون عدة، بشكل أو آخر. ويظهر هذا الأمر جلياً في القانون الدولي والعلاقات الدولية، إذ يعلم الأساتذة المتابعون والمختصون في هذا الأمر أن معظم، إن لم يكن أغلب المفردات المتداولة الآن في هذا الميدان، هي نتاج غربي محض… بل إن كثيراً من المفكرين الغربيين يذهبون إلى أبعد من هذا، ويقولون إن القانون الدولي – كله – صناعة غربية، كما أن الدولة اختراع غربي محض؛ علماً أن كثيراً من حقائق التاريخ التي كشفوها هم، بعد دراستهم الرُقم التاريخية في مواطن كثيرة، بينها الوطن العربي، أظهرت خلاف ذلك.
فالدلائل والآثار والرُقم أشارت إلى أن الاتفاقيات أو المعاهدات الدولية بصورها الأولى وجدت في بلاد الرافدين، واشتهرت بها دول مصر القديمة في علاقاتها في تلك الفترة المبكرة في التاريخ، كذلك الاتفاقات التي ذُكرت في آثار مدن العراق والشام واليمن وغيرها؛ فضلاً عن تاريخ الدول القديمة في الصين والهند واليابان، ومناطق الجوار العربي المباشر.
وهذا ما أشار إليه الكتاب الصادر مؤخراً عن الهيئة العامة السورية للكتاب تحت عنوان (صراع الهوية في العلاقات الدولية)، وهو من تأليف: د. جاسم محمد زكريا، في أحد فصوله ذي العنوان (الدولة والهوية في أطوار العروبة الأولى).
إذ تحدث المؤلف في هذا الفصل بداية عن الدولة والهوية في بلاد الرافدين منذ أن وصل العرب إليها في فترة مبكرة من الألف الرابع قبل الميلاد، وشرعوا في إعمارها وبناء مجتمعاتهم وتنظيمها تنظيماً متميزاً. وعرج في حديثه على الدول التي تعاقبت على حكم هذه البلاد بدءاً من الدولة الآكادية وما عُرف عنها من تمتعها بنظام راسخ، وجيش قوي مكّن لها من بسط سيادتها على رقعة جغرافية عظيمة.
ثم انتقل في حديثه إلى الدولة البابلية الأولى التي بلغت أوج مجدها في عهد سادس ملوكها (حمورابي)، مبيّناً أن المدوّنة التي عُرفت باسمه، والتي ارتكزت على تراث حقوقي عريق، وتضمنت 282 مادة اشتملت على تنظيم راقٍ للأحوال الشخصية والعقود المدنية والتجارية ووسائل الإثبات والمسائل الجنائية، تعدّ من أهم وأقدم الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية المعروفة في تاريخ البشر.
وتطرق تالياً إلى الحديث عن الدولة المصرية الأولى التي بلغت مكانة رفيعة بين الدول القائمة آنذاك، ولا سيما في عهد رمسيس الثاني، موضحاً الدور الذي لعبه هذا الفرعون في إنهاء عهد طويل من النزاع مع الحيثيين بتوقيع معاهدة مع ملكهم، عُرفت باسم (معاهدة اللؤلؤ)، التي عُدّت أول معاهدة حقيقية في تاريخ العلاقات الدولية في العالم القديم من جهة، وأول معاهدة سلام من جهة أخرى، أنهت حالة الحرب بين طرفيها، وأرست أسس التعاون والتحالف بينهما، وتضمنت مبادئ قانونية مهمة في ميادين متنوعة.
وتابع عرضه لموضوع الدولة والهوية في أطوار العروبة الأولى بذكر دول الشام القديمة، وما ارتكزت عليه من نظام الدولة – المدنية، قبل قرون من نهوض دول – المدن اليونانية؛ وهو النظام الذي بناه العموريون والكنعانيون والآراميون… وغيرهم، موضحاً أن عديداً من هذه الدول قطع أشواطاً كبيرة في الرقي السياسي والاقتصادي والعمراني، وحاز بعضها مكانة مرموقة في النظام الإقليمي السائد آنذاك.
وعرج في حديثه كذلك على الدول التي نشأت في اليمن وما تركته من آثار مهمة، وعلامات فارقة في تاريخ العلاقات الدولية القديمة، ومسيرة تطور المجتمع السياسي العربي ما قبل الإسلام، وتأثرها بمحيطها، وتجاوزها ذاك المحيط إلى الحبشة، وبلاد فارس، وغيرها…
ونخلص مما سبق إلى القول إن أطوار العروبة الأولى وضعت أسساً مهمة لتاريخ العلاقات الدولية، ومفهوم الدولة والهوية في الفكر الجمعي العام، وهو ما أكّدته الرقم والآثار جميعها التي دوّنت فيها تلك الأقوام أبرز الأحداث في تاريخها، وقدمت للبشرية جمعاء مبادئ في مفهوم الاتفاقيات والمعاهدات استطاعت الاستناد إليه في العصور والأزمنة اللاحقة.