الثورة – فؤاد مسعد:
مرت منذ أيام قليلة الذكرى الأولى لرحيل شيخ الكار المخرج علاء الدين كوكش أحد المؤسسين الأوائل الذين أرسوا دعائم العمل الدرامي التلفزيوني، كما أرسوا عادات وتقاليد آليات عمل شكّلت حجر الزاوية في بناء لم يلبث أن أخذ يعلو ويتطور شيئاً فشيئاً، وقد تجاوزت اهتمامات الراحل حدود التلفزيون إلى فضاءات أكثر اتساعاً فكتب القصة والمسرحية ومثّل مجموعة من الأدوار وأخرج عدداً من المسرحيات، كان مثقفاً من الطراز الرفيع ومفكراً نبيلاً عميق الرؤيا والبصيرة، له مواقفه التي بثها عبر نتاجه الإبداعي المتنوع، هو مبدع ينتمي إلى جيل كان يحرث في الصخر ليُخرج الماء العذب، أعطى من قلبه بحماس وشغف وهمه إنجاز الأفضل فكرّس من خلال أعماله بصمته الخاصة التي تحمل هويته الفنية.
يعود أول عمل إخراجي تلفزيوني حمل توقيعه إلى عام 1969 وجاء بعنون (مذكرات حرامي) واعتُبر فيما بعد باكورة الأعمال التي قدمت البيئة الشامية، وبات له أسلوبيته في التعاطي مع العمل الدرامي انطلاقاً من انتقاء النص والعمل عليه عبر عملية التفكيك وإعادة البناء وفق رؤية العارف ممتلكاً قدرة إظهار بواطن الأمور محللاً ومعالجاً وكاشفاً وواضعاً يده على الجرح بعيداً عن التعقيد، يهتم بأدق التفاصيل بما فيها أداء الممثلين كلهم دون استثناء بغض النظر عن حجم الدور، يُدرك تماماً كيف يستنهض ما في داخل الممثل من طاقات كامنة ليُعبّر عن الحالة وفق ما يريده المخرج تماماً، ولا ينتهي تعاطيه مع العمل هنا وإنما يمتد لما بعد العرض وكيفية تلقف الجمهور له، لذلك يحق له لقب (مُخرج الروائع الدرامية التلفزيونية)، وقد شكّل خطه في الإخراج مدرسة نهل منها الكثيرون، كان معلّماً خرّج الكثير من المبدعين بصمت وحب نابع من معرفته بأهمية استمرار وتطوير العملية الإبداعية.
ما قدمه لفت الأنظار منذ البدايات عندما كان العمل المصري يسود الساحة فسعى مع زملائه إلى محاولة تغيير السائد رغم العدد القليل من الأعمال السورية المنتجة آنذاك، وجاء اعتمادهم نابعاً من تقديم دراما تحمل الهوية السورية الخالصة بما في ذلك اللهجة والتفاصيل المتنوعة وبالفعل استطاعوا تكريس هذه الأعمال عند الجمهور وجذبه إليها من خلال ما تمتعت به من خصوصية وتناولها بيئة يعرفونها تماماً وتمثل حياتهم وعلاقاتهم وهمومهم ومشكلاتهم، الأمر الذي اعتُبر تغيّراً في وجه الدراما السورية وشكّل حافزاً للسير قدماً في هذا الاتجاه نحو الغوص أكثر فأكثر في المحلية وفي تفاصيل المجتمع السوري.
انتصر المخرج الراحل في أعماله إلى الإنسان بكل ما يحمل من قيم ومبادئ وهموم وقضايا، الأمر الذي ترجمه عبر طرح الكثير من الهواجس وإثارة العديد من التساؤلات التي جاءت محرّضة تحرك الساكن، ابتعد فيها عن البهرجة مفضّلاً اعتماد مبدأ احترام عقل وذائقة المشاهد ليصل إلى قلبه وعقله بسلاسة نابعة من الحكمة، ولعل أحد أبرز الهموم التي قدمها منذ البداية الإشارة والتنبيه إلى عالم المهمشين، كما أكد على حضور العائلة وهمومها في أعماله راصداً ما طرأ من تغيرات على العلاقات الإنسانية داخلها بشكل أو بآخر، ويُحسب له تعاطيه المنفتح والراقي مع قضايا المرأة حيث خرج عن السائد الذكوري نحو دراما تحاكي عوالمها إيماناً منه بدورها وأهمية تقديمها بالصورة اللائقة، وبالمجمل يمكن القول إن الأعمال الدرامية التي قدمها خلال مسيرة عطائه كان محركها الأساسي الصدق فحفرت لها مكاناً متقدماً في وجدان الناس وأعتُبر العديد منها نقطة علام في تاريخ الإنتاج الدرامي التلفزيوني السوري.