هل حقاً أصبحت علاقاتنا الإنسانية محكومة بأساليب الحوار الحديثة التي تتم عن بعد دون أن يصافح أحدنا الآخر، أو أن يسأله عن اسم عطره، أو أن يبدي إعجابه بمظهره؟.. ربما الأمر بات كذلك وهو يغذُّ عميقاً في هذا الاتجاه ليبتر، أو لينتقص من تجربتنا الحياتية الحقيقية التي لا تكتمل إلا بالتواجد الفعلي مع الآخر.
وكما التفاعل الكيميائي الذي لا يتم إلا بتكامل عناصره كذلك هي الحياة.. وما نفعله الآن هو عكس منطقها الذي يقوم على تفاعل البشر مع بعضهم بعضاً في تواصلهم بشكل مباشر، ووجهاً لوجه، وفي توادد، أو صدام ربما تظهر معه ردود الأفعال الطبيعية للبشر، لتكتمل الصورة التي تقع ضمن إطار الحياة ذاتها.. والدليل على ذلك هو الضيق، والأزمات النفسية التي أصابت الناس عندما أجبروا على عزل أنفسهم عن الآخرين مع بدء انتشار الجائحة.
وكمن يتخبط في بحر لا يدري أمواجه أين ستحمله لتقرر له مصيره هكذا أصبحت موجات الأثير تحملنا في محيطها الهائل لتقذفنا في ساحات جديدة ربما نكون من أبطالها، أو من ضحاياها.. والناس يتلاقون عادة في محيطهم الاجتماعي، والوظيفي، والدراسي، الذي يعيشون فيه، إلا أن وسائل التواصل الحديثة أفردت مساحات من اللقاء، وفرصاً هائلة من التعارف ما كانت ربما لتأتي من تلقاء ذاتها مع المصادفات النادرة رغم أنها تحدث أحياناً، ولعلنا نصنفها في دائرة الأقدار.. فهل أصبحت أقدارنا مرهونة بالذي يتوافد إليها على تلك الصفحات؟.. ربما أيضاً.. بعد أن وجدنا مساراتٍ جديدةً للتعارف، والتواصل.
لكن هذه الوسائل الحديثة بالرغم من إيجابياتها، وما تمنحه لنا من متعة إلا أنها جعلت كل أحد يعيش في جزيرته الخاصة بينما ينفرد بجهازه الذكي الذي يصله بالعالم عن بعد، حتى غدا محيط الحياة يعج بالجزر المتناثرة فوق مياهه.. وخطوط العلاقات التي تمتد بين جزيرة وأخرى لعلها لم تعد صحية بما يكفي لكي لا يصيبها العطب مادامت أساليب التعارف قد تبدّلت، وطرق الحوار قد تغيّرت.
ليس هذا كل ما في الأمر فحسب.. بل إن هناك جوانب أخرى تعنينا في تجربتنا الإنسانية، وعلاقة البشر بعضهم ببعض بعد أن أُسقطت الحواجز بين كثافة الواقع وشفافية الخيال.. فهذا التفاعل مع الآخر على صفحة الحياة الحقيقية هو ليس ذاته الذي يتحقق عبر أمواج الأثير، وعلى الصفحات الافتراضية وهي تعدنا بالمزيد مع (ميتا فيرس)، وشبكة العنكبوت غير قادرة على نقل نبض الحقيقة بتلقائيتها، وعفويتها الآنية التي تقع في حينها مادامت الوجوه مستترة، ونبرات الأصوات مغيبة وراء أزرار لا تملك أكثر من أن ترسل، وتستقبل.. لتذوب بالتالي فطرة مشاعرنا، وردود أفعالنا المتأصلة فينا.. ولن تكون عوالمنا بعد ذلك أكثر من عوالم صغيرة ضيقة منعزلة عن بعضها بعضاً، وكأنها جزر متناثرة فوق محيط هائل.
إلا أننا وبعد مدة من الاعتياد على الحوار غير المباشر استغراقنا في استخدامات للمواقع قد تتناقض أحياناً مع مواقفنا حيالها رغم انتسابنا لها، لنبدأ في البحث عن سلبياتها، وما يمكن أن تسببه لنا من أضرار لم تكن في حساباتنا.. وهي لا تبدأ بمصادرة الخيال، ولا تنتهي عند أضرار صحية، ومعها أخرى سلوكية، ومنها ما يتطور إلى الأمراض النفسية التي قد تصل بمريضها إلى حد اقتراف الجريمة الأخلاقية، أو الفعلية.. أما الحوار بحد ذاته فهو ليس بمنأى عن أي مزلق له إذ يمكن أن يتم في تقبّلٍ للآخر، أو في نفورٍ منه، أو أن يكون فيه التجاوز على آدابه، وقواعده التي يجب أن يكون عليها، إذ تظل أساليب الحوار ثقافة تسود بين البشر انحداراً، وسقوطاً، أو علواً، ورقيّاً.. وقد يكون الالتباس أحياناً، أو سوء الفهم سبيلاً لحوارٍ يخرج عن مساره عن غير قصد، أو عمد.
ورغم ذلك فإنه لم يعد بالإمكان العودة للوراء، ولا إلى زمن ما كانت فيه الرقمية حاضرة.. وإدمانها، أو بتعبير أصح إدمان التعاطي بها، أصبح واقعاً يبحث له عن أقل خسائر ممكنة، أو محتملة لآثارها المستقبلية مادام لا مفر من التعايش معها.
لنمضِ إذاً في طريق ما اخترناه، ولكن بمزيد من الوعي، وحسابٍ أدق لكل الخطوات.. ولنستبدل الجزر المتباعدة بواحة دافئة نستريح فيها في تقاربٍ، وتآلفٍ.
إضاءات – لينا كيلاني
* * *