بقلم إيهاب زكي – كاتب فلسطيني:
على مدى عقدٍ من الأكاذيب المتناسلة، والطَّرق المتلاحق على الوعي الجمعي، تراكمت طبقات التيه فوق صراط السُبل، حتى أصبحت البديهيات بحاجة لإضاءاتٍ ودلائل، وبدت الأمة وكأنّها في حالة ترفٍ حضاري، فبدأت باختراع أعداءٍ لها من نفسها، أو لأنّها في حالة تراجع حضاري، اخترع لها العدو أعداءً من نفسها، فأصبحت كل الطرق تؤدي إلى قتل النفس، ولا تؤدي على الإطلاق لقتال العدو.
وقد تحدث السيد حسن نصر الله، في ذكرى استشهاد القائدين أبو مهدي المهندس والجنرال قاسم سليماني، عن الأهمية القصوى لتحديد العدو، وأنّ العدو الحقيقي للأمة هو الولايات المتحدة الأمريكية، فكل القتل وكل الدمار وكل الاحتلال، في فلسطين وسورية ولبنان والعراق واليمن، ليس خلفه إلّا الولايات المتحدة، وأنّ فكرة تحديد العدو ليست مسألةً هامشية، نستطيع تجاوزها في معارك المصير.
وهذه الفكرة باختراع الأعداء ليست جديدة وإن كانت متجددة، حيث تحدث الرئيس جمال عبد الناصر في ذات السياق، على قاعدة النأي بالنفس، حيث تنأى مصر عن معركتها الحقيقية مع العدو الحقيقي، وتبدأ رحلة البحث عن أعداءٍ آخرين، وهذا أيضاً ما صرّح به الرئيس بشار الأسد، حين سؤاله في إحدى اللقاءات التلفزيونية، عن ردّ فعل سورية على سلوكيات دولةٍ خليجية، فقال نحن لا نلاحق الأدوات ولا نحاربها، لأنّ هذا سيستنزف الوقت والجهد بلا طائل، بل نحارب الرأس المدبر، الولايات المتحدة الأمريكية.
إنّ هذا الوضوح في الرؤية، والوضوح في تحديد العدو، يجعل المعركة حقيقيةً وذات جدوى، ويجعل من الوقت سلاحاً لك لا عليك، ويجعل من الجهد مثمراً لا هباءً منثوراً، فالولايات المتحدة هي العدو الحقيقي، ولا يوجد عدوانٌ حدث في منطقتنا إلّا وكانت هي المحرّض دائماً، وهي الفاعل غالباً والمستفيد دوماً، وحين تفشل أدواتها في التنفيذ، فالمغنم لها والمغرم لهم وحدهم، وتعاقبهم بقدر فشلهم، وكما قال حمد بن جاسم على سبيل المثال، أنّ الولايات المتحدة طلبت من قطر، الجلوس في المقعد الأمامي في قاطرة العدوان على سورية، وحين تعثر المشروع، استبدلت قطر بالسعودية وأجلستها في المقعد الأمامي.
وعليه فإنّ كل قطرة دمٍ سُفحت على امتداد الوطن العربي، فإنّ كِفلها على الولايات المتحدة، وكل غارةٍ تشنها”إسرائيل” على سورية هي قرارٌ أمريكي، لذلك كان يبدو حديث ترامب عن الانسحاب من سورية متسرعاً وساذجاً، فالعدوان على سورية لم يكن مجرد استهداف للموقف السوري الممانع والمقاوم، بل كان استهدافٌ لصناعة قرنٍ أمريكيٍ جديد، تُحبس فيه روسيا في الجليد، وتُحاصر إيران خلف المياه، وتتسيّد”إسرائيل” المنطقة، ولا مناص لتحقيق كل ذلك، من تدمير سورية الدولة وتغيير بنيتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية، والفشل العسكري في تحقيق ذلك، أدّر لاستخدام الخيار الاقتصادي وسلاح الحصار والعقوبات.
ولكن ما لا تستطيع الولايات المتحدة استدراكه مهما أوتيت من وقت، هو أنّ استراتيجية اختراع الأعداء، بدأت بفقدان فعاليتها القديمة، وأنّ قواعدها في المنطقة خصوصاً في سورية والعراق، أصبحت شاخصاً للتصويب، وهي في طريقها لتصبح أهدافاً غير قابلةٍ للحماية، وأصبح خروجها من المنطقة مسألة وقتٍ لا أكثر، وأنّ العناد في البقاء هنا، اتكاءً على الحرب الاقتصادية، هو ضربٌ من العبث المستند لهِرم الامبراطورية الآيلة للسقوط.