الثورة – فؤاد مسعد:
مبدع كثيراً ما أثار الجدل حول ما أنجز من أعمال ضمن إطار البيئة الشامية، ولكنه استطاع الوصول إلى أماكن متقدمة كانت عصية على كثيرين، محققاً جماهيرية واسعة ليس في سورية فقط وإنما في مختلف الدول العربية، لدرجة أن من مسلسلاته ما حقق حالة منع تجول في العديد من المدن العربية لدى عرضها، ورغم أنه لم يكن أول من قدم البيئة الشامية في الدراما التلفزيونية إلا أنه استطاع التفرد فيما قدم ناسجاً لنفسه خطه الخاص الذي ما لبث أن تحّول إلى مدرسة طُبعت باسمه نهل منها كثيرون حتى أن هناك من حاول تقليدها واستنساخها، إنه (الآغا) كما كان يطيب للكثيرين تسميته، المخرج والمنتج بسام الملا الذي ترجل صباح أمس عن عمر يناهز الستة وستين عاماً (مواليد دمشق 1956) تاركاً وراءه إرثاً فنياً وإبداعياً غنياً، وقد نعته كل من وزارة الإعلام ونقابة الفنانين التي أشارت إلى أنه توفي إثر أزمة صحية تعرض لها خلال وجوده في لبنان.
قام الراحل خلال مسيرة عطائه بإخراج العديد من الأعمال منطلقاً من (برامج المنوعات) في ثمانينات القرن الماضي والتي حققت حضوراً مختلفاً إلى جانب البرامج الثقافية والتراثية التي أخرجها مقدماً فيها التراث وأعلامه وفنونه عبر مشاهد درامية تمثيلية، ومع بداية التسعينيات بدأ بتكريس حضوره كمخرج درامي محققاً الفارق فيما يقدم من مسلسلات، إن كان عبر الدراما المقدمة للأطفال والعائلة كما هو الحال في الجزء الأول من (كان يا ما كان) ، أو عبر الدراما التي تغوص في عمق المشكلات الاجتماعية (الخشخاش) ، والدراما التاريخية (العبابيد)، أو من خلال الأعمال التي دارت أحداثها في البيئة الشامية التي بدأها بمسلسل (أيام شامية) 1992 وتبعه (الخوالي) و (ليالي الصالحية)، ومن ثم المسلسل الأشهر (باب الحارة) الذي أخرج منه الأجزاء الأربعة الأولى وأشرف على الأجزاء اللاحقة حتى الجزء التاسع، وجاء فيما بعد مسلسل (سوق الحرير).
شكلت أعمال (البيئة الشامية) في مجموعها مساراً هاماً ومفصلياً ضمن مشروعه الفني الذي عمد من خلاله إلى محاولة رصد الحياة الاجتماعية في دمشق عبر الدراما ساعياً إلى الغوص في خصوصية البيئة والتقاط مفرداتها عاكساً أساليب العيش وطرائق الحياة فيها وفق رؤيته، وكان شغوفاً بالشغل على التفاصيل وحياكتها ضمن النسيج الدرامي إيماناً منه أنها تشكّل عصب الحياة الذي يمنح العمل روحاً مختلفة ويجعله أقرب إلى المتلقي، فمجرد رؤية مشهد من أعماله يمكن على الفور معرفة أنه هو من قام بإخراجه من خلال بصمته الخاصة التي يطبعها في كل ما يُقدم، نهل من معين الحياة لينجز أعمالاً تكون أقرب إلى الجمهور طارحاً حكايات جاذبة وشخصيات شعبية تلامس أحاسيس الناس ومشاعرهم وعاداتهم وتقاليدهم بكل ما فيها من دفء وعفوية مبرزاً انفعالاتها وخلجاتها ما جعلها تحفر عميقاً في الوجدان وتترك أثرها الكبير في النفوس، لذلك نجد ممثلين شاركوا في أعماله كان مجرد حضورهم وإن بخط ثانوي يحقق لهم نقلة نحو آفاق إبداعية جديدة ومختلفة.
وقد أكد المخرج الراحل في أكثر من لقاء على آلية تعاطيه مع البيئة الشامية (لا أقدم إلا اللون الأبيض في الشام)، أما حول الجماهيرية الكبيرة التي حققها (باب الحارة) فسبق أن قال بعد انتهاء عرض الجزء الرابع منه (الجمهور قرر أن يكون هذا العمل علامة هامة في تاريخ الدراما السورية ولم يكن ذلك بقرار مني أو من الكاتب أو الممثلين).
المخرج والمنتج الراحل بسام الملا الذي حصد العديد من الجوائز الهامة، ترجل تاركاً وراءه أعمالاً تعتبر بمثابة نقاط علام في تاريخ الدراما السورية والعربية، فكان مبدعاً له حضوره الخاص في المشهد الدرامي والفني، وسيبقى ما سطره من أعمال ضمن الذاكرة الجمعية إرثاً لا يمحوه الزمن.
السابق
التالي