الملحق الثقافي:حامد العبد:
لا شك أن مفهوم الواقعية السوداء أو (الواقعية القذرة) سيثير للوهلة الأولى الاستهجان لدى القارئ إن لم تكن الدهشة، وخصوصاً إذا ما علم هذا القارئ أن الواقعية التي يمثلها ليست الواقعية السياسية التي يفهمها البعض أنها تبرير للتنازلات المجانية، أو الواقعية الاقتصادية التي يراها البعض الآخر على أنها شَرعنة لأعمال الاحتيال والكسب غير المشروع، ولكنه مفهوم يتحدث عن نوع من أنواع الواقعية الأدبية، وكما هو معروف فإن الأدب هو أحد الفنون الراقية الذي يُشترط به تحقيق الجمال والاستمتاع به، فكيف لهذا الفن أن يكون قذراً أو يحتوي على قذارة؟!.
حسب
ويكيبيديا، تم استخدام هذا المفهوم لأول مرة عام 1983. وذلك عندما نشر رئيس تحرير مجلة (غرانتا) الأميركية بيل بافورد مقالاً تحت عنوان (الواقعية القذرة.. كتابات جديدة من أميركا)، ونلاحظ هنا أنه ربط هذه الواقعية بأميركا وأميركا الشمالية تحديداً، وهذا الربط لا يخلو من الدقة نظراً لأن جميع الكتَّاب الذين ورد ذكرهم في هذا المقال وعددهم عشر هم من الأميركان، وربما يعود السبب في ذلك إلى أن هذا النوع من الواقعية وجد تربة خصبة له في المجتمع الأميركي ذي النزعة الاستهلاكية والمادية، ومثلما اتسمت بالضبابية والغموض معظم التعريفات التي أطلقت على الحركات الأدبية في الماضي، كذلك جاء تعريف هذا الواقعية التي إلى الآن لم تحظَ بالاهتمام الكافي من منظري الأدب والنقد الأدبي.. ومع ذلك نستطيع أن نحيط ببعض خصائصها المشتركة من بين أعمال كتابها الذي لا يخفون امتعاضهم من هذه التسمية، بدعوى أن كل ما يفعلونه هو نقل صورة صادقة عن مجتمعاتهم وما تحتويه من القذارة.. إنها بكل بساطة تحاول الحديث عن حياة المهمشين والمنبوذين أو حتى الفاشلين في مسيرة حياتهم، وغالباً ما يمتهن أبطالها مهناً عادية أو حتى وضيعة، ويتعرضون لمشاكل مادية ومتاعب يومية متأزمة، ويشكون من عدم انسجامهم مع وسطهم الاجتماعي، الأمر الذي يحذو بهم للدخول في حالة من اليأس الداخلي، أي أن في هذا النوع من الواقعية ليس هنالك مكان للبطولات الملحمية، أو لوجود أبطال أشداء يحاولون أن يشقوا طريقهم بعزيمتهم، أو يدافعون عن قضية يؤمنون بها كأبطال الواقعية الاشتراكية التي أكاد أجزم أنها تقع على الطرف النقيض من هذه الواقعية، ونستطيع القول أن هذه الواقعية جاءت في عصر بداية اضمحلال الإيديولوجيات الكبيرة والجادة بين جيل الشباب الذي افتقد وجود هدف سامٍ يسعى إليه بعكس الأجيال السابقة حتى في الولايات المتحدة ذات نفسها.
إن ارتباط كلمة قذارة بكلمة الواقعية يعني أن كتّابها نزلوا إلى قاع المجتمع ليميطوا اللثام عن قذارته وعبثه، وأن مسرح أعمال هذه الواقعية يقع في أماكن قذرة أو عشوائية كالضواحي وأطراف المدن الكبيرة، أو المواخير وبيوت الدعارة والنزل الفقيرة التي تحتضن مدمني المخدرات والكحول، وتنتشر فيها الجريمة المنظمة، وأن تكون هذه الواقعية أيضاً ترجمة أدبية لعالم الجنس والانحراف، ومن هنا فلا عجب أن تروي قصصاً غريبة وشاذة وصادمة لقرائها، ولكن هل كل ما ذكر سابقاً هو حكر على هذه الواقعية؟.. ألم تتناول الكثير من الأعمال الأدبية السابقة ذات النزعة الواقعية العادية هذه الأوساط من قريب أو بعيد منذ نشأتها وتربعها على عرش الحركات الأدبية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر؟. ما الذي بالدرجة الأولى يميز هذا النوع من الواقعية عن غيرها ؟.. إنها اللغة دون شك، اللغة التي تتأبّى بقية الحركات الأدبية عن استخدامها، وهي لغة تعتمد البساطة والسهولة في التعبير من جهة، وتمتاز باستخدامها كلمات ومفردات يعتبرها الكثيرون خادشة للحياء إن لم نقل أنها فاحشة، وخصوصاً تلك التي تصف العمليات الجنسية، كما أنها لا تتوانى في ذكر السباب والشتائم على ألسنة أبطالها بصيغها السوقية كما هي دون تحفظ أو مواربة، بحث تبدو لغة الواقعية التقليدية بالمقارنة معها وكأنها لغة منمقة ومتكلفة، وحجة كتّابها في ذلك أنهم يستخدمون المفردات والعبارات التي لا يكتمل المعنى إلا باستخدامها للتعبير عن الحالات والمواقف الموصوفة خلال العمل. وهي وإن كانت تثير دهشة القارئ إلا أن كتّابها يتعمدون ذكرها بشكل تلقائي يوحي بأنها في غاية الطبيعية، فكان من الطبيعي والحال على ما هو عليه أن يلجأ هؤلاء الكتّاب إلى الوصف السطحي للشخصيات أكثر من الوصف العميق، وأن يبتعدوا عن كل أشكال التعقيد من ناحية الشكل، وعن كل الأساليب التجريبية التي لجأ إليها كتّاب الحداثة وما بعدها، تأكيداً منهم على البساطة الأدبية المفهومة من قبل الجميع.
بيدَ أن أية حركة أدبية أو فنية تبرز للعلن، لا بد وأن تسبقها بعض الإرهاصات الأولية لتتابع بعد ذلك هذه الحركة طريقها منفردة بذاتها قدر المستطاع، والواقعية القذرة لا تشذ عن هذه القاعدة، ومن الأمثلة عن الإرهاصات الأولى لهذه الحركة، نستطيع أن نذكر ثلاث روايات تضمنت كل واحدة منها الكثير من صفاتها.
ولعل أقدمها رواية (مدار السرطان) لهنري ميلر التي كتبها في باريس عام 1934م، عندما كان يتسكع فيها محاولاً إثبات ذاته ككاتب، وقد مُنعت من النشر في الولايات المتحدة الأميركية لسوء سمعتها وقتئذٍ ولمحتواها الجنسي الفاضح.. تناولت هذه الرواية حياة أناس منبوذين هامشيين يعيشون في أطراف المدينة، و تحدثت عن فنانين طفيليين وكتّاب مُدّعي الموهبة، ولكي لا تهلك هذه الشخصيات في خضم الظروف القاسية التي يعيشونها، تصبح كل الأعمال والوسائل مشروعة في نظرهم، كالتشبه بالمحتالين واللامبالاة والاستهتار بالمثل العليا.
أما العمل الثاني فهو رواية (شارع السردين المعلب) لجون شتاينبك والتي كتبها عام 1945، وتحدث فيها عن شارع مقزز في مدينة مونتيري تحيط به البيوت الوضيعة والأكواخ والبراميل الصدئة وأكوام النفايات والأرصفة المتشققة، ويعيش فيه خليط من الناس الذين لا يجمع بينهم شيء سوى الغربة والبؤس، والحنين إلى مواطنهم الأصلية بالإضافة إلى الحلم في الخلاص من واقعهم القذر.. وهو شارع وصفه شتاينبك نفسه بأنه «قصيدة نتانة، وضجة ذات صرير، ولا يضم سوى القذارة والحانات الرخيصة ودور البغاء والنفايات التي تفوح منها رائحة النتانة المنبعثة منها». بيد أن سكان هذا الحي يجمع بينهم حس التعاون إلى حد ما بغض النظر عن مهنهم الوضيعة بعكس أبطال الرواية السابقة.
والعمل الأخير هو (رواية ضياع في حي سوهو) لكاتب بريطاني هذه المرة وليس أميركياً هو كولن ويلسون، كتبها في أواخر خمسينيات القرن العشرين، حيث ينتقل فيها البطل ليعيش في حي سوهو اللندني الشعبي، ويسكن في إحدى النزل الحقيرة، ويبدأ هناك تجربته بدون عمل وبدون هدف حقيقي.. متشرداً.. متسكعاً يعيش حياة بوهيمية يتعرف خلالها على شخصيات عديمة المسؤولية، ومتحررة من كل أنواع القيود الاجتماعية، ومن خلال هذه الرواية يصور لنا ويلسون أنواعاً مختلفة من الآراء وأنماط التفكير العجيبة والشاذة.
ولكن ماذا عن أدبنا العربي؟..
لا شك أن هكذا واقعية لن تعدم من يرفضها بشكل قاطع في مجتمع يوصف بأنه محافظ إلى أقصى حد، وينفر من كل ما يمسّ تابواته خصوصاً إذا ما تم التطرق إليها بلغة بالغة الصراحة تصل أحياناً إلى درجة السوقية، وقد يرى البعض الآخر أن هذه الواقعية لا تخصنا بل تخص الولايات المتحدة الأميركية بذاتها، أو على أبعد تقدير العالم الغربي.. ولكن نحن كعرب أليس لنا قذارتنا الخاصة أيضاً في عشوائياتنا ومخيماتنا وأحزمة البؤس التي تحيط بمدننا الكبيرة، والتي تعج بالكثير من الأعمال المنبوذة. كما أن الكثير من الكتّاب العرب استخدموا بالفعل بعض آليات هذه الواقعية في أعمالهم، ومن هذه الآليات اللغة الفاضحة والشتائم البذيئة، بحجة أنهم ينقلون الواقع كما هو بكل قذارته وبدون تجميل.. في حين يرى البعض الآخر أن هؤلاء الأدباء لم يلجؤوا إلى هذه اللغة، إلا من أجل جذب انتباه القارئ العربي الذي يعاني من جميع أصناف الكبت وأولها الجنسي، ولعل هذه الحجة تنسحب أيضاً على العديد من كتّاب هذه الواقعية في العالم.
لاشك أن الجدل حول هذه الواقعية وكتّابها لن يتوقف أبداً بين مؤيد ورافض، وهو أمر متروك للمستقبل، لعلها صرعة أو «موضة» أدبية ستتلاشى من تلقاء نفسها، أو ربما هي وصف حقيقي لعالم أثبت أنه قادر على خلق الأزمات أكثر من قدرته على حلها، وأن كل ما فعله كتّابها هو أنهم فقط مدّوا ألسنتهم في وجه هذا العالم.
التاريخ: الثلاثاء1-2-2022
رقم العدد :1081