الملحق الثقافي:حبيب الإبراهيم:
ربما لا يغيب عن ذهن وبصيرة الكثيرين صور ومشاهد سرقة الآثار والمتاحف الوطنية خلال الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، هذه الصور التي تناقلتها وسائل الإعلام العربية والعالمية آنذاك، تتمثل بقيام مجموعات من المرتزقة المأجورين، عندما دخلوا مع قوات الاحتلال الأميركي وقاموا بنهب الآثار والمتاحف وبيعها بالسوق السوداء أو تهريبها إلى خارج البلاد، هذه الصور والممارسات، تبين مدى الاستهداف الثقافي والتاريخي للحضارة الإنسانية التي يزخر بها تاريخ العراق، ويعكس في ذات الوقت سعي الاستعمار الجديد عبر وسائله الحديثة إلى إلغاء المنظومة الثقافية والفكرية والتاريخية لهذا الشعب أوذاك، والمتتبع لمسيرة التاريخ وعبر قرون متتالية، يقرأ وبدقّة التصرّفات الهمجيّة والبربريّة للطّغاة والمستعمرين، أعداء الحضارة والإنسانيّة ،بدءاً من هجمات هولاكو على البلاد العربية ورميه كتب ومحتويات مكتبات بغداد في مياه دجلة لتتحول مياهه إلى اللون الأسود لكثرة ما ألقي به من الكتب والتي كانت تشكّل أحد أهم بواعث النهضة الثقافية والفكرية…
والقارىء لتاريخ الشعوب والحضارات المتتالية لا بد وأن يتوقف عند حرب الإبادة العرقية التي انتهجها الأوربيون بإقدامهم على إبادة الهنود الحمر بحضاراتهم وتراثهم وثقافاتهم الغنيّة، هذه الإبادة تندرج ضمن عمليات التطهير العرقي التي يمارسها الغرب ويتشدّق بنفس الوقت بشعارات الحريّة والعدالة والمساواة و…
إن الممارسات الاستعمارية وعبر قرون طويلة كان هدفها في المقدمة حرمان الشعوب المستَعمَرة الاستفادة من طاقاتها وثرواتها ومخزونها الفكري والثقافي، والعمل بكل الوسائل لتدمير تاريخها وحضارتها وثقافتها من خلال السرقات الموصوقة للآثار، والتي تعكس الثقافة والتراث والذاكرة الجمعية لأي أمّة من الأمم، إن سرقة الآثار تهدف إلى مسح ذاكرة الشعوب ومحاولة سلبها هويتها القومية والوطنية، والتي تعكس أصالتها وثقافتها، حيث تشكّل امتداداً طبيعياً للحضارات القديمة والمتلاحقة…
وفي العصور الحديثة حاول دعاة الحرية والديمقراطية استخدام أقذر الأساليب لتدمير الثقافة الوطنية عبر الإبادة المنظمة لمفردات الثقافة وخاصة الأوابد الأثرية من متاحف وطنية ولقى أثرية، والتنقيب عن الآثار بطرق غير شرعية في مواقع أثرية غنية، وهذا ما شهدناه خلال الحرب الكونية المدمّرة التي استهدفت سورية الوطن والإنسان، حيث استهدفت المجموعات الإرهابية المسلحة البشر والحجر والشجر بدعم من المحتل التركي والأميركي والصهيوني، ولم تسلم المواقع الأثرية والمتاحف الوطنية والأسواق الشعبيّة والمساجد والكنائس والمدينة القديمة في حلب من التدمير والتخريب والحرق والسرقة خلال سيطرة المسلحين الإرهابيين على المدينة، ولم تسلم مدينة تدمر وواجهة المسرح الروماني والمتحف الوطني من العبث والتخريب والتدمير والسرقة والتهريب خارج البلاد، كما لم يسلم متحف معرة النعمان من التخريب وتدمير تمثال الشاعر الكبير الفيلسوف أبي العلاء المعري، أضف إلى استهداف علماء الآثار وتصفيتهم بدمٍ بارد كما حدث مع عالم الآثار خالد الأسعد والذي أعدمته المجموعات الإرهابية عام 2015 ورفض الإفصاح عن مكان كنوز تدمر التي خبأها من السرقة والتخريب قائلاً (نخيلُ تدمر لا ينحني ) .
إنّ استهداف الآثار والمواقع الأثرية والذي تم بصورة منظّمة وممنهجة، هو استهداف لتاريخ سورية وحضارتها الإنسانية الموغلة في القدم، هو استهداف لسورية في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وهذا شكّل سبباً رئيساً لهذه الحرب الكونية والتي عمل مشغّلوها على طمس المعالم الحضارية والتاريخية والتي تمتد لآلاف السنين.
إن حروب الإبادة الثقافيّة وتدمير رموزها الوطنيّة، لا تقل خطورة عن الإبادة العرقية والتطهير العرقي الذي مورس على شعوب لها كيانها وهويتها الوطنية وتاريخها الحضاري والإنساني، وهذا يحتاج بكل تأكيد إلى التصدي لهذه الهجمات والممارسات وتحصين المجتمع فكرياً وأخلاقياً وتعزيز ثقافته الوطنية وترسيخ القيم والمبادىء الإنسانية في عقول شبابه، والتسلح بالحق للدفاع عن وجوده وتقديم الغالي والثمين للحفاظ على سيادته واستقلاله وقراره الوطنيّ الحر.
فالمستعمر بكل أشكاله وألوانه ومسمّياته يسعى لتدمير الشعوب وتاريخها الحضاري، و قيمها ومبادئها من خلال التشويه والتضليل الذي يمارسه في شتى المجالات وصولاً إلى تحقيق أهدافه الكبرى التي رسمها ويعمل على تحقيقها ضارباً بكل القوانين والمنظمات الدوليّة عرض الحائط.
قولاً واحداً…ً إنّ تدمير آثار سورية وسرقتها وتهريبها إلى الخارج، هو تدمير للتراث الحضاري والإنساني الذي تزخر به والحفاظ عليه عبر المؤسسات الثقافية الوطنية هو واجب وطني وإنساني، من خلال تضافر كل الجهود لحمايتها من العبث والتخريب كي تبقى سورية وطناً للشمس، ومهداً للحضارة والتاريخ.
التاريخ: الثلاثاء15-2-2022
رقم العدد :1083