الملحق الثقافي:فؤاد مسعد:
(الثقافة بأطيافها تشكّل لغة عالمية عابرة الحدود والقارات والمعتقدات والأجناس) (الثقافة روح مغردة خارج ما يُدار من صراعات سياسية وحتى عسكرية ، فهي مرآة الشعوب ولسان حاله) .. هي عبارات كثيراً ما يتم تسويقها بين وقت وآخر حاملة في ظاهرها المعاني البرّاقة اللامعة خافية في داخلها ما تُبطن من مراوغة ، فلدى الاختبار الصريح سرعان ما تبدو مجرد كلام أجوف ، وكأنها أشبه بالقبور المجصصة ، وإلا فما معنى لجوء قوى التكبر العالمي في العديد من الأوقات إلى محاولة فرملة كلّ إبداع يكشف حقيقتها عبر محاولة منع وإخماد الأصوات التي تقف مقاومة لجبروتها ، ولعلّ الفن السابع الذي يمكنه حمل الكثير من الأفكار والقضايا الهامة كان في مرمى نيرانها فمارست بحقّه عمليات منع للإنتاج وللعرض عبر شتى أنواع الضغط بحجج جاهزة لتسوّيغ وتبرير ما تفعله في سعي لإسكات أي صوت يخالفها ، فاليوم باتت حتى الثقافة واحدة من الأسلحة التي تُستخدم في المعارك ضد الدول والشعوب .
لعل أنصع مثال على محاولة تقييد الإبداع ولجم الحراك الثقافي هو الحصار الجائز الذي يُمارس على سورية بمختلف أنواعه بما فيه الحصار على الفن والثقافة ، وما يؤكد ذلك وصول أذرع الحصار إلى حدّ منع إمكانية الحصول على التجهيزات المتطورة والمتعلقة بإنجاز العملية الفنية بما فيها من آلات تصوير وأجهزة عرض ، ومحاولة استبعاد الأفلام السينمائية السورية وخاصة التي تقوم المؤسسة العامة للسينما بإنتاجها من المشاركة في العديد من المهرجانات التي كانت تستقبل فيما مضى الفيلم السوري بكثير من الحفاوة ، ذلك كلّه يكشف في أحد أوجهه ما تمتلكه السينما من فاعلية وقوة تأثير .
منذ بداية الحرب الممنهجة والهمجية التي شنت على سورية كان للثقافة والفن حصة منها ، ولدى العودة بالذاكرة إلى عام 2011 نجد أن منظمي تظاهرة (شاشات سينما عربية جديدة) التي تُقام في فرنسا قد رفضوا حضور فيلم (مرة أخرى) ومخرجه جود سعيد ضمن التظاهرة بعد أن اختاروه للمشاركة فيها لأن رأيه ومواقفه ليست على هواهم ، وكانت رسالة صغيرة منهم إلى المخرج حينها كفيلة بإسقاط ورقة التوت (بسبب انحيازك ومواقفك قررنا أن نلغي مشاركة فيلمك في تظاهرتنا) ، والفيلم من إنتاج مشترك بين المؤسسة العامة للسينما وشركة سورية الدولية ، ويتناول برؤيا شفافة قسوة الحرب من خلال حكاية زمنين تتكرّر فيهما أحداث متشابهة أحياناً هي طرح لما تركته الحرب من أثر على حياة السوريين واللبنانيين والعلاقة فيما بينهما .
ومن الأمثلة الأخرى ما حدث مع فيلم (العاشق) للمخرج عبد اللطيف عبد الحميد في مهرجان القاهرة السينمائي بدورته الـ (35) عام 2012 حيث تم سحب الفيلم من المسابقة الرسمية للمهرجان للأسباب ذاتها الأمر الذي استنكره الكثير من المثقفين والسينمائيين المصريين ، والفيلم من إنتاج المؤسسة العامة للسينما ويعتبر دعوة إلى تجديد وتطوير آلية التعاطي مع الواقع طارحاً مجموعة أفكار ومقولات تمازجت فيها قوة الطرح مع شفافية الأسلوب مقدّماً من خلالها أطياف رؤى للقادم من الأيام ، وهو من إنتاج المؤسسة العامة للسينما . ولدى العودة إلى الوراء قليلاً نجد أن فيلم (الرسالة) إخراج مصطفى العقاد قد مُنع عرضه لسنوات طويلة في العديد من الدول ، كما أن الفيلم التاريخي الملحمي (أسد الصحراء – عمر المختار) إخراج مصطفى العقاد وإنتاج عام 1988 تم منع عرضه في إيطاليا حتى عام 2009 عندما عرضه التلفزيون الإيطالي بعد دبلجته للغة الإيطالية .
مما لا شك فيه أن هناك مجموعة عوامل تلعب دورها في موضوع منع الأفلام هنا أو هناك ، من بينها السياسي والديني والأخلاقي ، فهناك من يلجأ إلى المنع انطلاقاً من قناعاته أنه يحاول الحفاظ على لحمة المجتمع وأخلاقياته ، بينما تجد من يمنع ويحظر انطلاقاً من دوافع أخرى في سعي لطمس الحقائق ، ولدى الغوص في التفاصيل بشكل أكبر والعودة إلى قائمة الأفلام التي طالها المنع عبر التاريخ على مستوى دول العالم نجد أن عددها لم يكن قليلاً ، ومنها على سبيل المثال لا الحصر الفيلم الإيطالي (معركة الجزائر) (The Battle of Algiers) انتاج عام 1966 وإخراج جيلو بونتيكورفو والذي سبق له نيل عدد من الجوائز وقد تم منع عرضه في فرنسا حتى عام 1971 ويعتبر من أهم الأعمال التي وثقت لكفاح الشعب الجزائري ضد المستعمر الفرنسي حيث يروي قصة كفاح كاشفاً عن أساليب الاستعمار الفرنسي في تعذيب المقاومين .
ولعل واحد من أشهر الأفلام الممنوعة فيلم (الدكتاتور العظيم) (The Great Dictator) وهو أول فيلم ناطق لشارلي شابلن ، فمع استيلاء النازيين على حكم ألمانيا قام بكتابة وإخراج وبطولة فيلمه الساخر عن الفاشية عام 1940 فمُنع عرضه في العديد من الدول بما فيها ألمانيا آنذاك ، كما تم منع فيلم (معركة بارنيارد) لفترة في ألمانيا وهو من إخراج أوب إيوركس وإنتاج عام 1929 . وهناك فيلم (دروب المجد) المناهض للحرب من إخراج ستانلي كوبريك انتج عام 1957 ومنع في فرنسا لمدة عقدين بسبب تصويره النقدي للجيش الفرنسي خلال الحرب العالمية . إضافة إلى الفيلم الفرنسي (الجندي الصغير) تأليف وإخراج جان لوك جودار عام 1960 الذي منع في فرنسا لمدة ثلاث سنوات ، والفيلم السنغالي (معسكر ثياروي) (Camp de Thiaroye) إنتاج عام 1988 مُنع في فرنسا أيضاً لانتقاده النظام الاستعماري وهو يوثق الأحداث التي أدت إلى مذبحة عام 1944 وما جرى من تمرد لفصيلة سنغالية من جنود الجيش الحر الفرنسي على يد القوات الفرنسية .
ضمن هذا الإطار تجدر الإشارة إلى أفلام عانت من ضغوط ولكن لم تصل إلى مرحلة المنع منها الفيلم الوثائقي الشهير (فهرنهايت 11/9) لمايكل مور الذي وجه نقداً لاذعا للرئيس الأميركي جورج بوش وأثار جدلاً سياسياً داخل الولايات المتحدة حتى أن البيت الأبيض وصفه بالفيلم المضلل ، وكان الفيلم قد فاز بالسعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي ، وواجه مشكلة كبيرة في التوزيع داخل الولايات المتحدة الأميركية حيث مورست عليه حرب معلنة لمحاولة منع عرضه فيها .
التاريخ: الثلاثاء15-2-2022
رقم العدد :1083