الملحق الثقافي – فؤاد مسعد:
عندما يرحل المبدعون يبقى لنا ما تركوا من إرث غني وثر ليكون بمثابة منارة للأجيال ونقطة علام في الحراك الثقافي والإبداعي العام، ووفاء لما قدموا خلال مسيرة عطائهم لا بد من حضور ذكراهم بيننا فما سطروه يحمل سمة الخلود لأنه إبداع ترسخ في عقول وأفئدة الكثيرين، وتحول مع الأيام إلى إرث فني وفكري وثقافي وجمالي وحضاري، ومن بين هؤلاء المخرج السينمائي الراحل ريمون بطرس الذي مرت ذكرى وفاته الثانية منذ أيام قليلة، فقد توفي في الثاني من آذار عام 2020 بعد صراع شرس مع المرض الذي عانده رافضاً الاستسلام له لسنوات ولكن باغته في النهاية ليترجل عن صهوة جواده دون أن يستطيع الموت النيل مما خطه من عمل دؤوب خلال سنوات عمره، حيث كتب أسطر عطائه بأحرف من نور يصعب على الزمن محوها.
المُشاكس المبدع
أبو عمر كما يحلو للكثيرين مناداته يعتبر أحد أنبل مشاكسي الفن السابع في سورية، كان شغوفاً بالعمل ودائم الطموح وتواق لإنجاز المختلف، سعى إلى ترجمة ما اكتنز به من معرفة وثقافة عبر نتاج إبداعي عكس من خلاله فكره وروحه وآلية تعاطيه مع الحياة ومفرداتها، فقدّم خلال مسيرة عطائه العديد من الأفلام الوثائقية والتسجيلية والأفلام الروائية الطويلة والقصيرة، هو ابن مدينة حماه التي خصها في العديد من إبداعاته بمكانة متقدمة لأنه العارف بتفاصيلها ونبض روحها، يقول (نقلت مدينة حماه إلى خمسين دولة عبر أفلامي) ، ولد في حماه عام 1950 ضمن عائلة سكنت حي الشيخ عنبر وسبق أن وصفها بالعائلة فقيرة الحالة فكان أحد الأبناء العشرة لأب عمل حجاراً ينقش على الحجر أجمل الأعمال، هذا النقش في الحجر الأصم وتحويله إلى تحفة إبداعية لعب دوراً في تشكيل وعي الطفل النهم إلى القراءة والمعرفة، وقبل أن يبلغ الثمانية عشر عاماً انطلق للكتابة في الصحف عام 1967.
تعددت مواهبه وملكاته التي عبّر من خلالها عن رؤاه وهواجسه موظفاً قدراته عبر مجالات متناغمة ومنسجمة التقت لتصبّ في نهر العطاء، كان عازفاً للكمان كما عزف على آلة العود، وعمل في إطار الإعلام والإذاعة محرراً ومعداً للبرامج وترجم الكتب وكتب السيناريو كما كان مخرجاً مبدعاً له مواقفه من الحياة التي ترجمها فكراً نيّراً متوقّداً في أفلامه السينمائية، وهو بذلك حاله حال المبدع الحامل لقضايا المجتمع متجاوزاً حدود الفردي والذاتي نحو الأعم والأشمل، مرسّخاً هوية إبداعية خاصة مستناً لنفسه منهجاً فنياً وثقافياً له نكهته وتنوعه.
الهاجس الوطني والقومي
ريمون بطرس الذي حصل على ماجستير في الإخراج السينمائي عام 1976 من معهد السينما في كييف معجون بحب سورية التي كان يراها الأصل والأساس للكون كله، وفي الوقت نفسه كان يحمل هماً قومياً لذلك نجده أحد أبرز الذين تناولوا القضية الفلسطينية عبر أفلامهم ومقالاتهم، والتي كانت حاضرة في ثلاثة أفلام لديه، فيلم تسجيلي قصير وفيلمان روائيان طويلان ، حيث أخرج أول فيلم تسجيلي له عام 1974 عندما كان طالباً وجاء بعنوان (صهيونية عادية) وشكّل محاولة لكشف جوهر الفكر الصهيوني الذي يعتمد على مقولة أن اليهود هم شعب الله المختار، فأظهر ما ارتكبوه في فلسطين عبر التاريخ منذ أوائل القرن العشرين وصولاً إلى عام 1973 وما قاموا به من مجازر، وحاز الفيلم على جائزة من مهرجان «مولديست» . وفي الفيلم الروائي الطويل (الترحال) إنتاج المؤسسة العامة للسينما 1997 تناول فترة ما بعد الاستقلال في سورية وفترة النكبة الفلسطينية حيث دارت الأحداث بين عامي (1948 – 1954) مقدماً القطار الفلسطيني الذي ينقل اللاجئين إلى المدن السورية وأظهر العواصف التي مرت بهم ونزوح جزء منهم إلى سورية مبرزاً كيف استقبلهم أهل حماه في كنائسهم ومساجدهم .. أما في فيلم (حسيبة) فكان هناك «صياح» الذي استشهد في ثورة عام 1936 و «فياض» الذي شارك في حرب عام 1947.
انتصر إلى بيئته وهويته مقدماً أفلاماً غاص فيها إلى العمق راصداً العديد من الأمور على مختلف الأصعدة (اجتماعي ، فكري ، فن تشكيلي ، آثاري ومعماري ..) ، كما ضمّن مدينته (حماه) في العديد من نتاجاته الإبداعية كما هو الحال في أول فيلم روائي طويل له (الطحالب) الذي شكّل لوحة بانورامية عن مدينته حتى أنه لم يضع فيه أية جملة لحنية وإنما اعتمد في موسيقاه على صوت النواعير، وفي فيلم (الترحال) حرص على تقديم صورة عن العلاقات الإنسانية والتغيرات الاجتماعية في المدينة، أما في فيلمه الوثائقي (الشاهد) فتناول العلاقة بين الإنسان والحضارات التي تعاقبت على ضفتي نهر العاصي.
وكان لدمشق حضورها الدافئ في أفلامه كما هو الحال في فيلم (ملامح دمشقيّة) الذي رصد تاريخ مدينة موغلة في التاريخ عائداً ثمانية آلاف عام مقدماً قراءة سينمائية عنها وعن رموزها التي حفرت مكانتها على جدار الزمن .. ومن الأفلام التي حضرت فيها دمشق بقوّة فيلمه الروائي الطويل (حسيبة) مشيراً فيه إلى مكانة المرأة راصداً التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي شهدتها المنطقة بين عامي (1927 ـ 1950) والتحولات التي طرأت على عدد من النساء الدمشقيّات.
مكانة مغزولة بالحب
المخرج القدير ريمون بطرس الذي حصل على ماجستير في الإخراج السينمائي عام 1976 من معهد السينما في كييف ونال خلال مسيرة عطائه جوائز عديدة من أفلامه، ترك رحيله وجعاً حقيقياً في قلوب من عرفوه (سينمائيين ومبدعين وأصدقاء وأشخاص عاديين في سورية وخارجها) ، فعلى مر السنين حفر في قلوبهم مكانته المغزولة بروح الحب والعطاء والإنسانية، ويوم الرحيل منذ عام سارعوا إلى نعيه والتعبير عن ألم الفراق، ومن أبرز ما قيل حينها وصف الناقد المصري مجدي الطيب له بالمبدع مثال التواضع وقول الناقد المصري طارق الشناوي إنه بالنسبة إليه أحد معالم دمشق الفيحاء، ورأى الكاتب مروان ناصح بأنه فنان أصيل ورجل نبيل بامتياز في زمن صعب، في حين وصفته الكاتبة ديانا فارس بعميد السينما السورية وأحد أيقونات الفن السابع فيها، إضافة إلى كثيرين كتبوا ما يعتلج في صدورهم من حنين لفقيد حفر ذكرى داخل كل منهم، فالراحل كان كبيراً في إنسانيته وإبداعه وعمق نظرته للحياة، هذه الإنسانية التي تفوح كعطر ياسمين الشام، العطر الذي يصعب تجاهله إن حل في مكان لما يمتلك من سمات تجعل من صاحبه إنساناً بكل المقاييس ومبدعاً يعطي من قلبه وذاته الكثير، لروح الفقيد في ذكرى وفاته الرحمة وللإرث الذي تركه الخلود.
رقم العدد : 1086 التاريخ: 8-3-2022