الملحق الثقافي – ليندا إبراهيم:
يفرضُ النَّصُّ الإبداعيُّ بألغازه المتعدِّدةِ والغامضة حالة حوارٍ معقَّد وشائك بين الكاتب والقارئ، ويبذل القارئ مجهوداً شاقاً في تشكيلِ رؤيةٍ تخيُّليَّة وتحليليَّة يضعُ النَّصَّ في إطارها في محاولة لتفكيكِ معاني النَّص، ويرتِّبُ القارئُ أفكاره باتباعِ مساراتِ الأحداث التي يفجِّرُها النَّص بجمالياته وطروحاته ورؤاه، غير أن تلك المسارات ما هي إلا مصيدةُ الإقناعِ التي يسحبُهُ إليها الكاتِبُ بعد أن يهيمنَ عليه ويستدرِجُهُ إليها، ففي ألغازهِ يكونُ النَّصُّ، وكلُّ نصٍّ إبداعيٍّ واقعةٌ تشابكتْ خيوطُهَا، وأهمُّ مقوِّماتِ اللغز هو التَّحدِّي باختبار فطنة القارئ وذاكرته وفكره ومستواه الثقافي والذهني، والنصُّ ليس من مقوماته التَّحدِّي فحسب، بل أيضاً التلاعُبُ بفطنةِ القارئ فيجعلُهُ فريسةً لتغيير آرائه، بأن يستدرجَهُ لمصيدة الإقناعِ أو دغدغة أوتاره النَّفسيَّة وتوليد معانٍ متموِّجةٍ، فما بين اطمئنانٍ للإمساكِ بدلالة النَّص وإقرار بفشلِ إمساكِهَا، تمضي لعبةُ النَّصِّ «بين الكاتب والمتلقي».
وأجزم بفكرة هي أن كاتب النص حينما يقوم بكتابته، إنما يكون ممسكاً بخيوطه كلها الظاهرة والخفية، ولكن ما الذي يحدث حينما يرى هذا الكاتب نصه في عقول وأذهان الغير أقصد المتلقين على اختلاف مشاربهم ومذاهب وطرائق تفكيرهم ومستويات ثقافاتهم، وكيف يعبرون عن تحليلهم وفهمهم له وتذوقهم، هنا أستطيع القول إننا أمام ثلاثة أنواع من المتلقين:
أما الأول فهو ما يفهم ظاهر النص، ويستمتع به، ويرشقه بنبال ذائقته في مستوياته السطحية سلباً أو إيجاباً نقداً أم احتفاء مطلقاً حكمه أو رأيه، وهذا يتفهمه كاتب النص مباشرة وبشكل جلي ودونما عناء.
والثاني هو الذي يعبر من ظاهر النص إلى باطنه فيفكك أحاجيه وألغازه، ويشرح مستوياته اللغوية والفكرية والأسلوبية والتعبيرية إلى كل ذلك، وهذا المتلقي المثقف الذي خبر أكثر من مستوى في الثقافة والفكر والتوسع المعرفي إضافة لشغفه الأساس في الأدب والقراءة والفكر، وهذا النوع من المتلقين عادة ما يكون مريحاً لكاتب النص في شرح أفكاره وتلقيه، حيث يقترب ويقارب أفكار الكاتب المضمرة منها والمعلنة وربما بعضها فقط…
وأما النوع الثالث من المتلقين فهو الحصيف النبيه الذي أوتي ملكة التلقي وأضفى عليها من روحه الوثابة إلى الإبداع وتوقها إلى التميز والفرادة، حيث أغنى نفسه فكراً وعقلاً بالمطالعة والتخصصية فيها، وربما لا يسعى للتخصصية لكنما هذا النوع من المتلقين الواعين، ومنهم من يكون أكاديمياً دخل مجال النقد والإبداع فيه عن شغف ومعرفة ودراية وتفرغ، هذا المتلقي حقيقة يفاجئ الكاتب صاحب النص برؤى مغايرة ومستويات تشابكية وعلائقية وأسلوبية وخلفية ثقافية لا تكون في ذهن الكاتب حتى، حين كتابة النص، يكشف له بمهارة وسعة أفق ونقدية عالية مالم يتقصده في نصه من مراميَ ودلالاتٍ والأنساق اللغوية والثقافية المضمرة في لغة الكاتب وفي نصه وجوانب خفية لا يكتشفها سوى الماهر الحاذق، وهذا ما يعطي للكاتب حافزاً أكبر للإيغال في الإبداع وخلق حرفيته الخاصة وجوانبه المكنوزة الدفينة التي يريدها أن تستعصي على الكشف..
يحضرني أخيراً قول محمود درويش في أحد حواراته حينما سئل إلى أي نص تسعى؟
فأجاب أسعى لنص الشعر المصفى الذي يبقى عصياً على أن يقبض عليه النقد…
رقم العدد : 1086 التاريخ: 8-3-2022