النص الفائق وموت المؤلف

الملحق الثقافي:

ما كان بالأمس أمراً غير مستساغ، ولا مقبولاً في الأدب والنقد والفكر، غدا اليوم أمراً واقعاً، ولم يعد ينظر إليه على أنه من الموبقات أو الخطايا، لا، بل صار أمراً حقيقياً وواقعاً، والنص المحمي المسيج بحقوق المبدع أو المؤلف صار نصاً مفتوحاً، عابراً لكل الحدود والاتجاهات، فالعرب قديماً كانوا إذا وقعوا على توارد فكرة بين شاعر وآخر يقولون باحثين عن تفسير له : قد يقع الحافر على الحافر، بمعنى آخر أنه الفكرة تكن عند هذا وذاك، ولكنهم وصلوا فيما بعد إلى توصيف الأمر بالسرقة الأدبية، ولهم في ذلك الكثير من الكتب والدراسات.
وثمة من وقف وقته وجهده لتتبع ما أسموه انتحالاً، إذ يعمد الشاعر إلى أخذ فكرة من آخر ويعيد صياغتها، وقد عابوا الأمر على شعراء كثيرين، ومع تطور الأمر والتلاقح الثقافي والفكري بين الأمم والشعوب نشأ ما سمي الأدب المقارن الذي تتبع الخطوط والقواسم المشتركة بين الآداب العالمية، ومدى تلاقحها واستلهامها من بعضها بعض وهنا يمكن الحديث عن رسالة الغفران للمعري وكيف تم اسلتهامها من قبل دانتي كما يقول الدارسون، بينما يرى آخرون أن الأمر لايعدو كونه تماثلاً فكرياً وإبداعياً، وفي هذا الإطار يشار إلى أن بعض الدراسات تذهب إلى الادعاء أن سرفانتس استمد حكايته الاشهر : دون كيشوت من تاريخ المغرب العربي وتراثه الشعبي.
هذا يقودنا إلى القول : إن الكتاب المطبوع كان محمياً وحافظاً للإبداع فما من شاعر أو روائي نشر كتاباً أو عملاً إلا وزين الصفحة الأولى بجملة مشهورة : حقوق الطبع والنشر محفوظة للمؤلف والآن توضع عبارة : لايجوز الاقتباس أو التخزين أو استرجاع النص إلا بموافقة مسبقة من الناشر أو المؤلف، وبعض الآخرين يذهبون إلى حد تحريم الاقتباس والاستشهاد بشيء من الكتاب أو المجموعة الشعرية أو العمل الفكري هذا التحصين الذي هو جزء من عملية حماية غير النص الذي أصبح الآن مفتوحاً، والمؤلف المعروف والمشار إليه بالبنان، غير المؤلف الجماعي في هذا اليوم، فلم يعد بإمكاننا القول : إنك لو عثرت على نص لنزار قباني غير موقع باسمه لعرفت أنه يحمل بصماته، وحملته إليه.
في عصر الوصول كما اسماه جيريمي ريفكين تغيرت الأمور وانقلبت المعايير تماماً، فالمؤلف الواحد مات، والنص الجامد توقف، إنها نصوص الشابكة أو النت، أو كما يسميها هو : النصوص الفائقة.
النص المفتوح
يرى ريفكين في كتابه الآنف الذكر ( عصر الوصول) إن الاتصالات الالكترونية قامت بتنظيم المعرفة بطريقة تختلف عما كانت عليه تكنولوجيا الطباعة تفعله، والنصوص الفائقة تحل محل طريقة إدراج المراجع المحدودة والضيقة والمستخدمة في الطباعة، إن كتاباً _ كما يقول _ متكاملاً ذا عدد محدد من الحقائق يعطي المجال لحقل لا حدود له من المعلومات، إذ أن الهوامش والمراجع تتوسع إلى ما لا نهاية خالقة نصوصاً ثانوية وما وراء النصوص.
ويرى ريفكين أن الكتاب المطبوع ذو طبيعة مستقيمة ومقيدة وراسخة، نرى النصوص الفائقة ترابطية ويحتمل أن لاحدود لها، والكتاب المطبوع حصري بطبيعته وعلائقي في هيئته وبكلمات أخرى لها بداية ولها نهاية، وهي متكاملة، أما النص الفائق فليس له بداية، أو نهاية واضحتين، بل هناك نقطة بدء فقط يقوم المستخدمون من خلالها بالوصل بين المواد ذات العلاقة، وهي تعيد التشكل دائماً ولا تتكامل أبداً، إن الكتاب المطبوع هو منتوج، في حين أن النص الفائق هو معالجة، والأول يلائم التملك طويل المدى بينما تكون الطريق المثلى للوصول إلى الأخير على أساس لحظة بلحظتها.
بلا ملامح
ويلاحظ ريفكين أن النص الفائق يقوض واحدة من المميزات الرئيسية للوعي الطباعي وهي فكرة المؤلف ذي شخصية مميزة يمتلك أفكاره وكلماته الشخصية، لكن النص الفائق يصيب مفهوم التاليف التقليدي بالضبابية وسبب ذلك هو أن هذا الوسط قائم على الشمولية والارتباطية بدل الحصرية والاستقلالية، ولهذا نرى أن الحالة الغالبة هي عدم وجود حدود واضحة تفصل مساهمة شخص عن الثاني والناس يقومون وبصورة مستمرة باقتطاع أو إعادة دمج أو تحرير أو حذف مواد تم الوصول إليها من مصادر وأوساط أخرى لا تحصى، وقد يقومون بدمجها بمواد أخرى من إعدادهم وإرسالها إلى عقد أخرى في الشبكات المختلفة التي يرتبطون بها، وعندما تصبح المواد من كافة أنواعها جزءاً من عملية سائرة مفتوحة النهاية، تشمل عدة جهات وموزعة عبر الزمان والمكان، بدل أن تكون منتوجاً متكاملاً ناتجاً عن جهود خلاقة لشخص واحد، يصبح حصر الملكية صعباً أحياناً.
وهذه الحال كما يقول رولان بارت يقود إلى ما سمي : موت المؤلف، وبذلك تموت معه مفاهيم الحصرية، والاستقلالية التي كانت من الأهمية بمكان في تأطير كل من العقل الحديث وعالم التملك.
أما ميشيل هايم فيرى أنه في هذه الحال تتضاءل حرية التعبير الفردي ولذا فإن الاعتراف بالذات الخاصة للمؤلف المبدع يتضاءل أيضاً.
هوية مشوهة
مالم يقله ريفكين في حديثه عن النص الفائق أنه صار نصاً مسروقاً، بلا هوية، بلا عنوان ولامعنى واضح، بل كما يقال بالعامية كما طبيخ (….) فهو يحول الكتاب أو نص إبداعي إلى مجرد نبضة تائهة لامعنى لها، فلاهوية، بل قصاصات ومسوخ تتراكم قرب بعضها البعض لا أحد يعرف أباً شرعياً لها، المستفيد الوحيد من ذلك كله هو من يروج لأن يكون الجميع متساوين كأنهم رؤوس البصل، ليس في العدالة، لا، إنما في التدجين، وأن يكونوا خرافاً طيعة تساق إلى المذبح الذي هو رأس المال وتحويلهم إلى سلع عليها دمغة المنتج فقط.
النص الفائق سيصبح فيما بعد نصاً مغلقاً، كتاباً مطبوعاً، لكن ليس لك، إنما لمن اخترع الفضاء وبذلك تذوب الهويات وتضيع القوميات وتفقد الروح الإنسانية والخصوصية لصالح جهة واحدة، بمعنى آخر ستفقد شهرتك، صوتك، بيئتك، حتى أنت لن تعرف نفسك، هذا ناهيك على أنه ركام من رماد الكلمات، ولا موثوقية له، إنما كثيب من الرمل يتراكم وفجأة قد يقرر صاحب الربع المملوء أن يذروه الى مكان آخر.
وما تنسجه يداك على صفحات التواصل الاجتماعي وتنشره على أنه إبداع يخصك، لا تستغرب أن ترى غيرك قد سطا عليه وأخذه على أنه من نتاجه، فهو مال سائب في صحراء لا مجال لحصرها، وقد يمر دهر دون أن تعرف من هو السارق، لذلك هو النص الفائق في كل شيء إلا الإبداع.
رقم العدد : 1086 التاريخ: 8-3-2022

آخر الأخبار
تجربة نموذجية تعبر عن اتجاه سوريا الجديدة ترامب ينشر خريطة الانسحاب داخل غزة.. وتحضيرات لمؤتمر القاهرة صناديق الاقتراع تغلق.. والأنظار تتجه إلى أداء المجلس القادم حلب تغلق صناديق الاقتراع وتبدأ فرز الأصوات ورشات عمل عاجلة في حلب لتحديد مشكلات القطاعات الصناعية  الانتخابات لمجلس الشعب.. بداية لعهد تشاركي يعيد الثقة للمواطن  الشرع: الانتخابات محطة مهمة وبناء سوريا مسؤولية جماعية سوريا تنتخب.. مشهد جديد وتفاؤل مبشر السومة خارج قائمة المنتخب لمباراتي  تصفيات كأس آسيا  الشرع: البلاد طوت صفحة الحرب وتستعد لمرحلة تشريعية جديدة أعضاء لجان انتخابية بحلب: مستقبل أفضل للبلاد  أهم الاستحقاقات.. مجلس الشعب المكان الأمثل للحوار الوطني أسماء الفائزين في انتخابات مجلس الشعب بدرعا  أعضاء لجان انتخابية بحلب: مستقبل أفضل للبلاد برلمان جديد يولد من صناديق اقتراع السوريين المطر على الأبواب.. الإسفلت يصل إلى المركز أولاً والضواحي تنتظر تقنيات التعليم وضروراتها في العملية التعليمية طريق دمشق - السويداء يشهد تحسناً ملحوظاً بحركة المسافرين ديمقراطية تتجسد على أرض الواقع..دمشق تنتخب بروح جديدة هل هذه نهاية الحرب في غزة؟