الثورة – فؤاد مسعد:
(أسعى وراء الكلمة واللحن ووراء صيغة معينة لها قيمة ، أريد تقديم أغنية تبقى مع الأيام أكون مقتنعة بها..) هذا ما سبق وصرحت به خلال أحد لقاءاتها الإعلامية منذ ثمانية عشر عاماً والذي شكّل الفارق وجعلها ميادة بسيليس القامة الإبداعية الباسقة والعلامة الفارقة بصوتها الملائكي الدافئ الراقي الذي امتلك إمكانية التسلل إلى القلب والوجدان دون استئذان وفي أي وقت ، الصوت الذي حيك من ذهب خالص مُغرّداً خارج السرب ليخرج بكامل حنوه وشفافيته وقوته ، المُعشّق بالإحساس والأصالة والعذوبة والنقاء ، حتى استحقت لقب سيدة الأغنية السورية.
مهما قيل اليوم عن فنانة بحجم إبداعها وإنسانيتها يصغر الكلام أمام وجع الذكرى ، الذكرى السنوية الأولى لوفاتها التي تصادف اليوم ، فما الرثاء الذي يمكن له أن يفي الراحلة حقها وأي كلام يمكنه تضميد الجراح ، تلك الجراح التي تزداد عمقاً وتغور في النفس أكثر فأكثر مع الوقت ، وتفيض شجناً وتأثراً داخلنا في كل مرة نستمع فيها إلى أغنية طُبعت بصوتها وروحها وألقها ، فتتمازج في النفس لواعج إنسانية متضاربة بين الحزن على فراق وغبطة لسماع صوت لا يمحوه تراكم الزمن ، وإنما يزيده حضوراً في الوجدان وترسخاً لدى جمهور عريض يتسامى مع صوتها كما يتسامى العاشق هياماً مع من أحب .
ميادة بسيليس التي انتقلت من عالمنا إلى الملكوت السماوي في السابع عشر من آذار العام الماضي عجز الموت بكل جبروته عن النيل من حضورها في أفئدة الناس فما قدمته من إبداع يلامس عوالم الملائكة امتلك صفة الخلود ، هذه حال المُبدع الذي يعطي من قلبه ، فكيف الحال إن كان هذا المبدع هو ميادة بسيليس التي كتبت مسيرتها الفنية والإنسانية بأحرف من نور ، واستطاعت الحفاظ على هوية وشكل ولون الأغنية السورية التي غنتها مراعيةً أن تحمل طابعها الإنساني الذي يميزها ، كما حافظت على وقار الفنان المبدع ومكانته واحترامه رافضة التنازلات منتصرة لمبادئها ومفهومها للحياة والفن ، فمنذ بدايتها سارت عكس التيار وتميزت بلونها الخاص الذي ضمن لها الفرادة ، كان همّها في خياراتها الفنية الأغنية التي تحمل الأصالة وسمة الاستمرارية ، ودائماً كانت تتميز إطلالاتها بابتسامة تزرع الدفء في نفوس الحضور في أي حفل تحييه ، تلك الابتسامة الحاضرة رغم الألم .
في حضرة الرحيل والذكرى تخون الكلمات صاحبها وغالباً ما تأتي أقرب إلى البعثرة ولكنها في مجموعها تشكل حالة وفاء وتقدير لمبدعة من الطراز الرفيع كانت دائمة الشغف بتقديم الأفضل والمختلف ، خطت سنوات عمرها بعمل نابع من الروح والوجدان ، وعزاؤنا اليوم أن ما تركت من إرث لن يندثر ، لروحها الرحمة وليكن ذكرها مؤبدا .