حبر أخضر… سورية قلب العالم

الملحق الثقافي – ناظم مهنا:

يقول الشاعر الأيرلندي وليم بطلر ييتس: «الأشياء تتفكّك، والمركز لا يصمد، والخيّرون يفتقدون إلى أي يقين، بينما الأسوأ ممتلئون بتوتر محموم…».
ماذا بعد كل هذه الفوضى الجحيمية، هذا التيه وانعدام اليقين؟! وبما أن العالم يمضي بجنون نحو الفوضى والتوحّش، وفقدان الفاعلية والإرادة الخيرة، وبعد أن وصلنا إلى الجدار، يخيل لي أنه لا بد من مخرج، لا بد من أفق نطلّ عليه أو يطلّ علينا. بعد كل ما جرى، لا بدَّ من الاستناد إلى ثقافتنا التي تشكل ملاذاً وعزاءً، وهي التي تجعلنا نتلمس في هذه الظلمة الدامسة أملاً في أن لنا أقداماً راسخة، مهما اهتزت وماجت تحتنا الأرض، وأننا قادرون على الحلم بالعودة إلى الاستقرار والهناء، وهذه مهمة الثقافة دوماً أن تنشر الأمل وليس اليأس والعدمية، فلتكن عودة إلى الذاكرة والحلم بحجرات آمنة، بمنازل بيضاء تطل نوافذها على الكون، إلى حضن أكثر حنواً نؤوب إليه سعداء مثل الأطفال!
بعد كل ما جرى، لا بد من وصولٍ ما؛ فليصل المجنون إلى مصحة، وليصل العاقل إلى عقله، وليصل الميت إلى مقبرة، وليصل الصياد إلى البراري والشطآن، وليصل الفلاح إلى الحقل، وكلٌّ إلى مبتغاه… لا بدَّ أن يستقر الناس على شيء: التائهون، المنفيون، الضالون، والأخيار والأشرار، بمعنى آخر لابدَّ من خروج من هذا الأتون.
وإذا كانت الأساطير القديمة تتحدث عن (ميثا) التيه والخروج، فإن واحدة من الحقائق الـ: مافوق مثيولوجية، هي الوصول، لا بد من العودة إلى المنزل، مع التأكيد هنا على ما بعد حرفية الكلمات. هذه العودة، بما أنها ارتداد ورجوع وارتكاس، والعودة مناقضة لمنطق (التقدم) المعاصر الذي شكل وسواساً قهرياً مسلطاً على الإنسان الحديث، فكلمة الرجوع توحي، بما لايحمل اللبس، بالرجعية، ولا نريد أن نوصم بهذه الرذيلة، وليساعدنا الشعر هذه المرة في الخروج، ألم يصرخ ريتسوس؟ قائلاً: «أيها الشعر ساعدني على الخروج»، وها هو «أودن» يكتب في ظروف مشابهة قصيدته العظيمة «المجيء الثاني». إذن فليكن مجيئاً لا رجوعاً… لكن، إلى أين نجيء ونحن في مدار الثقافة التي هي انبثاق وتزامن، حضور وغياب… إلى (الكلاسيكية الجديدة) أقولها بألم معرفي تفرضه عليَّ وقائع الحاضر وجدلية (الآن/ وهنا).
كلاسيكية جديدة، تبدو ملامحها تنبثق من قلب السلبية والعدمية والتشاؤم، كنقيض، العودة إلى الإشراقات، إلى مشروع رامبو الموءود، وقبله شعراء سورية الذين فتحوا الآفاق للعالم.
ما هذه الكلاسيكية الجديدة التي نرومها؟ إنها لا تتطابق تماماً مع الكلاسيكية الأولى، ولا تنعدم الأواصر بينهما، هذه الجديدة هي من صلب الأولى، ومن رحم الحداثة أيضاً، والحداثة كانت تواصلاً أكثر مما كانت دعوة الراديكاليين المتطرفة إلى القطيعة المعرفية.
المفكر الفرنسي هنري لوفيفر في كتابه «ما بعد الحداثة» تحدَّث عن هذه العلاقة، ويرى أن الوعي الحديث يحتوي على عناصر من اليقين ومن اللايقين متساوية في حدتها، ومتفاوتة في نزقها أيضاً، يقول في هذا السياق: «يبدو الوعي اليوم كما لو كان صالة انتظار لمجيء الكلاسيكي… إن ما هو دائم في الجديد يصبح كلاسيكياً»، وفي الجملة الأخيرة يكمن بيت القصيد. ما الدائم في الجديد؟ لم يترك لوفيفر مكاناً للمزاودة التقدمية، بل على العكس، ثمة اتهام بالعجز هنا عن فهم معنى الحداثة حين تربط بجانب واحد راديكالي قائم على الرفض الدائم، يقول استكمالاً: «لنستعد، هنا، (ثيمة) سبق طرحها، ولنلج منها إلى المسيرة المدهشة للكتاب الروائيين والشعراء والمسرحيين المعاصرين، فهم يبدؤون عادة بالنقض، ولا يستطيعون أن يبدؤوا إلا بالنقض: المسرحية المضادة، الرواية المضادة، الشعر المضاد… ودون أن يعرفوا دورهم الحقيقي، ولا قانون نشاطهم الحقيقي، تراهم يتطوعون هكذا بإيصال الفن إلى تفككه، وهم يغذون السير في البدء نحو الوجهة التي تقود إلى إتلافه، مساهمين دون أن يعرفوا المسألة الجوهرية؛ (التجاوز) لكل من اليومي والفن…».
ويرى لوفيفر أن هذه السلبية لا تدوم لدى الكتّاب، فسرعان ما يأتي النجاح ومعه التقدم في السن، حينها يصبح الفنان إيجابياً وخلاقاً وحقيقياً، فيعزموا الأمر على كتابة مسرحيات وروايات وأشعار تفضي إلى قهر السلبي، وقد اهتدوا وانتصروا على المبدأ الشيطاني، وصاروا يرون بوضوح أكثر. في هذه النقلة، يغدو الكاتب وقد استعاد نفسه، وتعمق شعوره بالتوافق والالتقاء بالعالم. إنه مجيء إلى الجوهري فينا، الكلاسيكي الكامن في الأعماق.
على هذا النحو، يقول لوفيفر: «نرى حداثويتنا وهي تحوي، بتناقض مكشوف، ملمحين، يمكن وسمهما بأنهما غير قابلين للالتقاء، للوهلة الأولى: شغف مبالغ فيه بالحالية المتغيرة، وكلاسيكية جديدة».
إذن، فلتكن مجيئاً إلى الكلاسيكية العميقة، والتي لم تغادرنا طالما كنا نتعامل مع الثقافة والشعر… كلاسيكية جديدة شاملة كل مجالات الحياة: سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، تعيد للإنسان مكانته، وللمعنى حضوره، وتعيد التوازن والاتساق للعالم.
وأزعم بيقين ودون تردد أن الكلاسيكية الأولى انطلقت من هنا، من جغرافيتنا السورية، ونحن مركزها، ويكفي أن نستعرض أسماء الفلاسفة والشعراء والخطباء والسرديين ورجال القانون السوريين القدماء وهم بالعشرات، حتى ندرك هذا العمق الكلاسيكي الكوني الذي عبر عنه الشاعر السوري ملياغر في تأكيد أن السوري يعيش في قلب العالم، يقول:
«إن أنا سوري، ما العجب؟
أيُّها الغريب؛ إننا نسكن بلداً واحداً هو العالم».
ملياغر من القرن الأول قبل الميلاد مع لونجينيو، ولوقيان من القرن الثاني الميلادي، ومعهم آخرون من شعراء وفلاسفة وخطباء ورجال قانون كثر، هم نواة الكلاسيكية السورية الأولى المنفتحة…
خلاصة القول: إن الكلاسيكية العميقة التي تمثلها سورية اليوم تتعرض لحرب ضارية من منظومة التفاهة الدولية بوصفها نقيضاً، وإذا ما استطعنا الخروج من هذه الحرب؛ يمكن للكلاسيكية الجديدة أن تنبثق من عندنا وتعمُّ العالم؛ وهكذا يكون الوصول أو المجيء الثاني، الذي حلم به الشعراء، وحلم به «أودن» وأحلم به أنا أيضاً.
العدد 1089 التاريخ: 29/3/2022

آخر الأخبار
أهالي درعا يستقبلون رئيس الجمهورية بالورود والترحيب السيد الرئيس أحمد الشرع يؤدي صلاة عيد الأضحى المبارك في قصر الشعب بدمشق بحضورٍ شعبيٍّ واسعٍ الرئيس الشرع يتبادل تهاني عيد الأضحى المبارك مع عدد من الأهالي والمسؤولين في قصر الشعب بدمشق 40 بالمئة نسبة تخزين سدود اللاذقية.. تراجع كبير في المخصص للري.. وبرك مائية إسعافية عيد الأضحى في سوريا.. لم شمل الروح بعد سنوات الحرمان الدفاع المدني السوري.. استجابة شاملة لسلامة الأهالي خلال العيد دمشق منفتحة على التعاون مع "الطاقة الذرية" والوكالة مستعدة لتعاون نووي سلمي حركة تسوق نشطة في أسواق السويداء وانخفاض بأسعار السلع معوقات تواجه الواقع التربوي والتعليمي في السلمية وريفها افتتاح مخبز الكرامة 2 باللاذقية بطاقة إنتاجية تصل لعشرة أطنان يومياً قوانين التغيير.. هل تعزز جودة الحياة بالرضا والاستقرار..؟ المنتجات منتهية الصلاحية تحت المجهر... والمطالبة برقابة صارمة على الواردات الصين تدخل الاستثمار الصناعي في سوريا عبر عدرا وحسياء منغصات تعكر فرحة الأطفال والأهل بالعيد تسويق 564 طن قمح في درعا أردوغان: ستنعم سوريا بالسلام الدائم بدعم من الدول الشقيقة تعزيز معرفة ومهارات ٤٠٠ جامعي بالأمن السيبراني ضيافة العيد خجولة.. تجاوزات تشهدها الأسواق.. وحلويات البسطات أكثر رأفة عيد الأضحى في فرنسا.. عيد النصر السوري قراءة حقوقية في التدخل الإسرائيلي في سوريا ما بعد الأسد ومسؤولية الحكومة الانتقالية