ما يجري على الأراضي الأوكرانية من صراع ومواجهة لا يمكن النظر إليه على أنه حرب أو عملية عسكرية محدودة كما عرفها أو أرادها الروس فهي من حيث ساحة المواجهة العسكرية أوكرانية روسية، ولكنها في جوهرها مواجهة بل حرب مركبة وهجينة يواجه فيها الجيش الروسي والدولة الروسية بشكل مباشر وغير مباشر الآلة العسكرية الغربية والجيش الأوكراني، وهذا ما يفسر إطالة أمد ومدة الصراع الذي يبدو أنه سيكون صراعاً مفتوحاً على احتمالات متعددة حتى لو توقف البعد العسكري المباشر من النزاع والصراع القائم، ولعل الأسباب التي تدعونا لترجيح أمد الصراع هو أن ما جرى لم يقرأ من جهة الدول الغربية على أنه عملية عسكرية محدودة أو لمنع أوكرانيا من أن تكون عضواً في حلف الناتو حماية سكان الدونباس حسب الرواية الروسية وإنما تم تظهير وقراءة ما جرى من وجهة نظر الغرب بضفتيه على أنه عدوان روسي على أوكرانيا (من العائلة الأوروبية)هدفه البعيد إعادة إحياء الإمبراطورية الروسية واستعادة ما فقدته روسيا بعد تحلل الاتحاد السوفييتي، وكذلك إعادة رسم خريطة أوروبا تلك الخريطة التي تشكلت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وانتهاك لما سمي اتفاقية يالطا القائمة على احترام المصالح الجيواستراتيجية للدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية وعلى وجه التحديد أميركا وروسيا وبريطانيا يضاف إلى ذلك أن الغرب اعتبر السكوت عن العملية الروسية سيطلق يد روسيا في الدول الأوروبية المحاذية لها ويخضعها لإرادتها وهيمنة روسيا سياسياً وأمنياً عليها وبالتالي الحد من إمكانية دخول تلك الدول أو منعها من مجرد التفكير في دخول حلف الناتو ما يعني فقدان الحلف تلك الديناميكية والقدرة على الحد من قدرة روسيا على تسوير وتحصين حدودها الغربية والجنوبية ناهيك أن الفلسفة العسكرية والوظيفة السياسية التي قام عليها حلف الناتو هي أنه وجد لحماية أوروبا من الخطر السوفييتي المتمثل والمزعوم بالتمدد غرباً أي إنه مظلة عسكرية وسياسية وأمنية للدول الأوروبية والحيلولة دون تغيير الحدود بالقوة.
ومن منظور أوسع يمكن النظر إلى الموقف الأوربي الداعم بلا حدود لأوكرانيا والعقوبات الاقتصادية وغير الاقتصادية التي اتخذتها الدول الغربية وحلفاؤها تجاه روسيا على أنه يهدف إلى منعها من تقويض النظام الدولي القائم منذ نهاية الحرب الباردة والمتمثل في قطبية أحادية أميركية مازالت قائمة في حدود واسعة ولاسيما على الصعيد الاقتصادي والقوة البحرية والهيمنة على المؤسسات الدولية ولاسيما البنك الدولي وكون الدولار العملة القابلة للتحويل بوصفه معادلاً عاماً، وكذلك احتكار الفضاء الإعلامي والتفوق في المجال السيبراني وحروب القوة الناعمة والجيل الخامس، حيث يبدو الفارق التقاني والمعلوماتي واضحاً بين أطراف النزاع في هذا المجال على وجه التحديد وإن كان من الواضح أنه في حالة جسر وتعويض للفاقد إضافة إلى قناعة الدول الغربية أن انتصار روسيا على أوكرانيا وتحقيق أهداف العملية العسكرية سيشجع الكثير من الدول على انتفاضة شبيهة بما أقدمت عليه روسيا ولاسيما الصين وغيرها من قوى كبرى في أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا ما يشكل إرهاصات أولى لنظام دولي جديد يطيح أو لنقل يزيح بالتدريج ما هو قائم ويعيد ترتيب المشهد الدولي على قاعدة الشراكة في المنافع وتعددية قطبية في قيادة العالم، وما يستدعيه ذلك من إعادة النظر بالمؤسسات الدولية القائمة سواء أكانت مجلس الأمن أو البنك الدولي وغيره من مؤسسات دولية عكست توازن القوى الذي كان قائماً قبل سبعين عاماً، وهو الذي لم يعد قائماً في الوقت الراهن مع صعود قوى اقتصادية وعسكرية ومالية وتقانية في العالم الجديد منها ألمانيا واليابان والهند والبرازيل ودول إقليمية صاعدة أخرى.
ولأن الغرب يقرأ النزاع القائم على هذه الصورة الاستراتيجية فهو سيبذل كل ما يمكنه من دعم لأوكرانيا عسكرياً وسياسياً واقتصادياً وفي المحافل الدولية وسيعمل جاهداً على إطالة أمد الحرب بهدف استنزاف روسيا اقتصادياً وعسكرياً ومنعها من تحقيق انتصار في أوكرانيا لأنه يراه من وفق ذلك المنظور هزيمة تاريخية له وليس لأوكرانيا وانتصار روسي ولاحقاً أوراسي لأنه سيشكل نواة صلبة لذلك التحالف المأمول بين روسيا والصين الشعبية ليكون في مواجهة الأطلسي وتوسعه وتمدده، ولعل أخطر ما حدث في سياق الحرب وتداعياتها يتمثل في إعادة تسليح كل من ألمانيا واليابان، وكذلك الحديث عن حلف لدول شرق آسيا تكون كل من أستراليا وكوريا الجنوبية واليابان إضافة إلى أميركا أطرافاً فيه بهدف محاصرة جمهورية الصين الشعبية القوة الصاعدة الكبرى اقتصادياً وعسكرياً ولاسيما بعد انطلاق مشروع الحزام والطريق والفورة الاقتصادية الصينية التي ترى معظم الدراسات أن الصين ستصبح بعد عشرة أعوام القوة الاقتصادية الأولى في العالم، حيث سيصل ناتجها المحلي حسب التقديرات من 25إلى 30 تريليون دولار ومع زيادة في الناتج المحلي السنوي قد تصل إلى 8 بالمئة وبهذا المعنى ستتفوق الصين على أميركا في حركة الأسواق والتجارة العالمية وهذا ما يخشاه الأميركيون ويحسبون له ألف حساب.
من خلال ما تقدم يمكننا القول إن المواجهة القائمة في أوكرانيا واستطالاتها الاقتصادية والسياسة والجيوبوليتيكية تنبئ بأنها ستكون طويلة وقاسية على الجميع الخاسر الأكبر فيها الشعب الأوكراني الذي قيض لبلاده أن تكون الولادة لنظام دولي جديد ذي أكلاف باهضة والأخطر في هذا الصراع أنه صراع أقوياء لا يتقبل ولا يحتمل أي منهم الهزيمة أو الخسارة ورفع الراية البيضاء من هنا يمكننا القول إنه لا يمكن التنبؤ بنهايات سعيدة لما يجري على الساحة الأوكرانية واستطالاتها وتضاريسها القاسية من منظور واقعي تحليلي بعيداً عن الرغبوية إضافة إلى إدراك أهمية أن ما تقوم به روسيا في مواجهة مع الغرب المهيمن سيصب حال نجاحه في مصلحة الدول والقوى المتضررة من نهج الهيمنة الأميركي الغربي ما يستدعي من دول كبرى دولية إقليمية دعم روسيا والوقوف إلى جانبها بشكل واضح وجلي وليس موارباً لأن روسيا تخوض بهذا المعنى مواجهة ومعركة تضع أن قيض لها أن تنجح نهاية لعصر الهيمنة الأميركي الغربي وتؤذن بولادة نظام عالمي جديد.