“مظفر النواب” يشبهنا في غربتنا المعلقة، في ترحالنا المنشود، وعزلتنا المؤكدة…وهاهي عيوننا جميعاً تسير إليه في رحيله الأخير..
” قَبيحٌ أن أسيرَ إِلى الموتِ
دونَ عُيونٍ عِراقِيَّةٍ في الشَبابيكِ
تَضحَكُ واثِقَةً …
وداعاً بحار البحارين
وداعاً ملك الترحال ..”
سيشكل رحيل الشاعر العراقي مظفر النواب، فرصة لإعادة التنقيب في ثراء نصه الشعري، والنبش في منجزه الإبداعي، الذي وظفه ليعلو صوت سردياته الشعرية منحازاً إلى القضايا المصيرية، صوت طال الأراضي العربية دون أن تتمكن كواتم الصوت من زحزحته.
في ليلة شتائية باردة، نفق محفور بسكين أنقذه من الشنق، ليتكيف مع حياة امتلأت بخسارات، ولكنه ظلّ مسكوناً بهاجسه الوطني، ولم تتمكن بغداد من الرحيل عنه بنخيلها ونهريها دجلة والفرات…
بقي النفق حاضراً في منفاه، ولكنه استعان لاجتيازه بقصائده المكتوبة والمنطوقة والمغناة ليخفف مشقة دربه الآهلة بقضايانا المصيرية، ومع اقفال بعض البلدان أبوابها في وجهه أصبح منفياً ومهدداً، وكتبه ممنوعة من التداول إلا أنه لم يبتعد عن تلك القضايا وإن تخفف من حملها كثر.
التورط الشعري فرض عليه أن يمضي أكثر من أربعة عقود بين بلدان عدة أهمها دمشق وبيروت والقاهرة وطرابلس والجزائر والخرطوم …
ولكن للحكاية مع دمشق بُعد آخر ها هو يعود فائق الخفة ( دمشق عدت بلا حزني ولا فرحي، يقودني شبح مضنى إلى شبح، ضيعت منك طريقا كنت أعرفه…)
أخيراً رقد مظفر النواب في رحلة أخيرة ولن يقول ثانية “مُتعبٌ منّي، ولا أقوى على حملي”.. غادر وترياته الليلية، وستفتقده ” دفاتر المطر” وهاهو يعود إلى وطنه العراق ” ليعلمه كلّ الأشياء”….
قصائدة ستفتقده كما ليالي الشعر التي أظلمت، ولكن أهم فقد سيعيشه المحرومون والمعذبون الذين لطالما دافع عنهم.. ستبقى صرخته الشعرية حاضرة في أذهانهم كلّما شعروا بانكسار يمس قلوبهم وسيصدحون معه من غربتهم…( يجي يوم ونرد لأهلنه، يجي يوم إنلم حزن الأيام ..يجي يوم أنفرّگ الغربة على العالم ملبس… والحزن طاسات حنّه…)