الثورة – عبد الحليم سعود:
عندما نستذكر ملحمة البرلمان السوري التي جرت أحداثها في مثل هذا اليوم من عام 1945 نعيش معها مشاعر مفعمة بالمجد والكبرياء والفخر والاعتزاز تجاه ما قدمه أبطال حامية البرلمان من درس عميق في الوطنية والانتماء والحرية مسجلين موقفاً من مواقف الرجولة يذخر بالشهامة والصمود والتضحية والفداء، حين رفضوا تأدية التحية لعلم الاحتلال الفرنسي عند إنزاله من على ساريته فوق دار الأركان الفرنسية آنذاك، وآثروا الاستشهاد مرحبين بالموت على أن يطيعوا أوامر المحتل الغاصب، تاركين لأبنائهم وأحفادهم ولكل السوريين من بعدهم صفحة مشرقة ومشرفة ستبقى خالدة في تاريخ السوريين مدى الأجيال.
لقد شكلت وقفتهم العظيمة الرافضة لجبروت المحتل وأوامره إرثاً وطنياً نستلهم منه كل معاني البطولة والفداء وننهل منه كل قيم الرجولة والسخاء واسترخاص الموت فداءً لحرية الوطن واستقلاله وكرامة الشعب وأمنه واستقراره.
كما شكل ذلك اليوم بأحداثه الدموية محطة مهمة في مسيرة شعبنا لتحرير أرضه المحتلة ونيل استقلاله الناجز وحرية وطنه بعد أكثر من ربع قرن من المقاومة والثورة والكفاح، قدم خلالها السوريون آلاف الشهداء ليكون العام التالي موعداً إلزامياً لإجلاء المستعمر الفرنسي عن أرضنا بعد أن أثبت عجز آلته العسكرية عن تركيع السوريين لمشيئته أو إلحاق الهزيمة بنفوسهم الأبية.
لم يكن البرلمان السوري وحاميته آنذاك الهدف الوحيد للعدوان الفرنسي الآثم، بل شمل العدوان المبيّت مدينة دمشق بمعظم أحيائها وباقي المدن السورية أيضاً، في تعبير عن يأس المحتل الفرنسي من إدامة واستمرار احتلاله وعجزه وإفلاسه إزاء الإرادة الحرة للسوريين الساعية للاستقلال وتقرير المصير بأنفسهم بعيداً عن أي وصاية أو انتداب أو احتلال أجنبي.
لقد واجه رجال حامية البرلمان الثلاثون بصدورهم العارية وأسلحتهم البسيطة كل الهمجية والآلة العسكرية الفرنسية المفرطة في التفوق والقوة، واستمروا في القتال والمقاومة الضارية حتى نفذت ذخيرتهم واستشهد العدد الأكبر منهم “28 شهيداً”، لتبدأ بعدها القوات الفرنسية المحتلة باقتحام البرلمان فوق جثث الشهداء و أنقاض الدمار الذي أحدثته مدفعيتها ودباباتها، حيث روى الشهداء الأحياء “وهم اثنان فقط” حيث ظن جنود الاحتلال أنهما في عداد الأموات، كيف قام الجنود الفرنسيين بتمزيق جثث الشهداء بالسواطير والحراب والتمثيل بأجسادهم في مشهد يترجم وحشية المحتل الفرنسي وغطرسته وزيف شعاراته حول الحرية والمساواة واحترام إرادة الشعوب.
اليوم ونحن نحتفل بهذه الملحمة الخالدة تستعيد ذاكرتنا الحديثة آلاف الملاحم البطولية التي صنعها أبطال الجيش العربي السوري وقوى الأمن الداخلي والقوى الرديفة خلال أكثر من عشر سنوات من الحرب الإرهابية الظالمة على بلدنا، إذ لم يعد يخلو بيت في الوطن من شهيد أو جريح أو مقاتل يسير على درب الشهادة دفاعاً عن وحدة سورية وعزتها وكرامتها وسلامة أراضيها، وما زالوا يكتبون في كل يوم بدمائهم وتضحياتهم المباركة صفحات جديدة خالدة لا تقل إشراقاً وكبرياء عن صفحة التاسع والعشرين من أيار عام 1945، وهم أكثر إصرار على طرد المحتلين والإرهابيين وتحرير كل شبر من أرض سورية الغالية، ومواجهة كل الأطماع والاعتداءات الخارجية من أي جهة كانت، وتعزيز السيادة والكرامة الوطنية.