الثورة – تحليل ريم صالح:
ما جرى في قمة الناتو التي عقدت مؤخراً في مدريد، وما صدر عنها من بيان ختامي، لم يكن عبثياً على الإطلاق، بل يمكننا الجزم بأن كل ما دار هناك من حوارات، وما تمت مناقشته من مواقف وقرارات، كان مدروساً وبعناية مطلقة، والهدف الأول والأخير محاولة إطباق الخناق على روسيا، ومحاصرتها، والعمل بأي شكل كان، وبأي وسيلة مهما كانت على تثبيت الولايات المتحدة على قمة النظام الدولي، والخارطة العالمية، وبالتالي تكريس استراتيجية مفادها رفض وجود أي شركاء للأمريكي، وهو الذي توهم أنه سيستفرد بالساحة الدولية إلى ما لا نهاية.
إذن وببساطة فإن الناتو من خلال قمته هذه حاول أن يرسل إشارات، أو رسائل مفادها بأن الغرب المتأمرك لن يسمح بصعود روسيا والصين، أو أي قوة دولية أخرى تسعى لعالم متعدد الأقطاب، وكل الخيارات لضمان هذا الهدف العدواني مطروحة على الطاولة، سواء عبر التصعيد بالضغط العسكري، أو الاقتصادي، أو حتى السياسي والدبلوماسي.
ويبقى اللافت في قمة مدريد أنه لم تكن موسكو وحدها محور مناقشات هذه القمة التصعيدية، بل كانت هناك بكين أيضاً، وإن كانت الرسائل مواربة بعض الشيء، إلا أنها كانت واضحة تماماً لكل متابع ولكل خبير.
حيث أن بيان قمة الناتو ركز على عدة نقاط أهمها “اعتبار روسيا الخطر الأكبر بالنسبة للناتو، وأن الصين تضر بمصالحه وأمنه، وتقوض النظام الدولي، بل هي والكلام هنا للأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرج تمثل تحدياً لقيم الأوروبيين ومصالحهم”، على حد تعبيره، كما تم الاتفاق على زيادة تمويل الحلف وتعزيز قوة الردع والدفاع لديه، وأيضاً مواصلة التسليح والدعم للنظام الأوكراني، والتسريع بقبول فنلندا والسويد في عضوية الناتو.
كثيرة هي المؤشرات والرسائل إذن، وليبقى الشيطان كامناً في التفاصيل، وما بين السطور، وما وراء الكواليس، وفي الغرف الظلامية، والدهاليز الاستخباراتية.
ومع ذلك يمكننا القول إن هذه هي المرة الأولى منذ تأسيس الناتو في واشنطن عام 1949 يتم شرعنة الأبواب على مصراعيها لحرب عالمية ثالثة، بل إن كل ما تم طرحه يؤكد أن هناك نوايا تصعيدية عدوانية للإطاحة بأي قوة صاعدة تهدد الأحادية القطبية، بل هي المرة الأولى التي يتم فيها الحديث عن بكين في العمق الاستراتيجي للناتو.
المؤكد لنا أن العالم بات مقسوماً اليوم بين معسكرين: موسكو وبكين، وإلى جانبهما الدول المناهضة للاستعمار، والامبريالية، والبلطجة المقنعة بالدساتير الأممية، وبين واشنطن، وأنظمة وكيانات غربية أوروبية، وصهيونية مارقة منقادة، وبناء عليه يمكننا القول إن أبواب المسارات السياسية والدبلوماسية بين المعسكرين بدأت تضيق أكثر فأكثر، لتغدو لغة العسكرة سيدة الموقف.
وما دعوة رئيس النظام الأوكراني فلاديمير زيلينسكي ليشارك في هذه القمة، وكيل الاتهامات المفبركة لموسكو التي تدافع عن أمنها القومي في ظل تمدد “الناتو” على تخومها، بما يحمله من أجندات ظلامية تستهدف القرار الروسي، وأيضاً ما دعوة قادة كوريا الجنوبية، واليابان، وأستراليا، كضيوف على القمة، إلا خير دليل على ما سبق وذكرناه.
العبرة في الخواتيم.. وكل الطبخات الغربية العدوانية لن تجدي نفعاً، موسكو تتابع تقدمها، وتعزز مكانتها على الخارطة العالمية، باعتبارها نصيراً للشعوب الحرة، وكذلك بكين تثبّت أركان قوتها كتنين اقتصادي لا يمكن لأي كان أن يقف في طريقه، أما الولايات المتحدة وأتباعها فهم يراكمون الفشل تلو الآخر على الساحة الدولية.