يتداول الإعلام الغربي بشكل واسع دور العملية العسكرية الروسية لحماية سكان دونباس في إحياء حلف شمال الأطلسي (الناتو) ويعدون ذلك إنجازاً لهم في مواجهة روسيا الاتحادية، ومن يتابع ما يكتب ويبث عن هذا الموضوع في الإعلام الأميركي تحديداً يعتقد أن الناتو كان في حالة موت سريري وهذا الأمر مجاف للواقع.
في قمة الأطلسي الأخيرة في العاصمة الإسبانية مدريد توخى الرئيس الأميركي جو بايدن تسليط الضوء على ذلك بقوله (اليوم ليس هناك شك في أن الناتو مهم وإنه فعال وهناك حاجة له الآن أكثر من أي وقت مضى) لنرى بعد هذا التصريح العشرات من وسائل الإعلام الغربية تروج لهذا الفهم ببث ونشر المواد الإعلامية تحت عناوين مختلفة، كلها تصب في إبراز دور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باحياء الناتو واعتبار ذلك انتصاراً سياسياً لدول الحلف على روسيا.
تحاول الدول الغربية بتعميمها هذا المحتوى تضليل شعوبها وإشغالها عن الأعباء المادية التي تتحملها جراء فشل حزم العقوبات على روسيا حيث زادت معدلات التضخم وارتفعت أسعار السلع الاستهلاكية وبات الأوروبيون تحديداً أمام واقع معقد في تأمينهم لمصادر الطاقة وتعويض الفاقد الروسي الذي يبدو مستحيلاً.
من المعلوم أن أحد أهم أسباب العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا هو تمدد الناتو إلى الحدود الروسية وتهديده المباشر للأمن القومي الروسي خلافاً لكل الاتفاقيات بين روسيا والناتو، والتي تمنع انضمام أي دولة مجاورة لروسيا له، إضافة إلى محاولة دول الحلف التملص من مسؤولياتها عن الأزمة الأوكرانية وإطالة أمدها وتداعياتها الإقليمية والدولية.
إن روسيا لم تقم باحياء الناتو لأنه في الاساس كان يعمل وعلى أكثر من جبهة وخاصة مشاركته في العدوان العسكري على ليبيا، وفي دعم الحرب الإرهابية على سورية، وفي العمليات العسكرية في أفغانستان، وبشكل سري وخبيث على الحدود الروسية عبر أوكرانيا، ولكن الولايات المتحدة استغلت العملية الروسية لتعزيز وجودها العسكري في أوروبا وكان لها ذلك بالفعل وهو ما يشكل ضغطاً كبيراً على دول الحلف الأوروبية التي تحولت إلى منفذ مطيع للسياسة الأميركية دون نقاش.
وكذلك الأمر لم يكن الناتو قيد التفكك والتحلل قبل العملية العسكرية الروسية بدليل سعي العديد من الدول للانضمام اليه ومنها أوكرانيا وجورجيا وعدد من دول البلطيق التي وجدت حكوماتها في العملية العسكرية الروسية فرصة لمخالفة توجهات شعوبها والمبادرة لتقديم طلبات الانضمام.
من الواضح أن دول الحلف تحاول أيضا التركيز على هذه المسائل الوهمية والمجافية للواقع لاشغال شعوبها عن الإنجازات التي يحققها الجيش الروسي على الأرض وتحقيق أهداف عمليته العسكرية ومنها تدمير البنية التحتية الأمنية والعسكرية والبيولوجية للناتو في أوكرانيا والتي كلفت دول الحلف مليارات الدولارات خلال السنوات الخمس الماضية، وكذلك تدمير المساعدات العسكرية الأوروبية والأميركية للحكومة الأوكرانية قبل أن تصل إلى جبهات المعارك.
إن الأهم من كل ذلك في الصراع الدائر بين روسيا الاتحادية والناتو هو الانتصارات التي تحققها موسكو في معركتها الاقتصادية والتي يعجز الإعلام الغربي عن إخفائها أو طمسها أو عدم التحدث عنها كونها تلامس حياة مواطني دول الحلف حيث اعتبرت صحيفة (فايننشال تايمز) أن (الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لقن عمالقة الطاقة الغربيين درساً لن ينسوه أبداً بتأميمه شركة حقول (سخالين- 2) للغاز المسال والذي تساهم فيه شركات أوروبية كبرى من بينها (شركتي شل وبريتيش بتروليوم) البريطانية وشركة (توتال إنيرجي) الفرنسية.
ويأتي تركيز الدول الغربية على مسألة استنزاف روسيا وإطالة أمد الحرب في أوكرانيا دون إيلاء الاهتمام بالخسائر التي تلحقها بالشعب الأوكراني انعكاساً لسعي الأطلسي إلى إخفاء ما يتكبده الاقتصاد الأوروبي والأميركي وهيبة وقرار الدول الغربية على المستوى العالمي، وما تداولته بعض الصحف من أحاديث عن سبل مواجهة شخصية بوتين وصور كاريكاتورية لقادة الأطلسي أصبح مادة دسمة للصحافة العالمية لنعي الهيمنة الأميركية على العالم وولادة عالم جديد بأقطاب متعددة.
لا شك أن حلف الناتو بعد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا ضاعف من نشاطه وتعاونه أولاً لإظهار عدم ضعف الدول الغربية وثانياً لمنع روسيا من تحقيق نصر سريع في أوكرانيا، ولكن المعلومات تؤكد وجود خلافات عميقة بين دول الحلف حول عواقب موقفه من روسيا وهذه الخلافات قد تظهر إلى السطح مع الإصرار الروسي على تحقيق أهدافه بالكامل في أوكرانيا، وعندها يمكن الحديث عن مستقبل الناتو ومصيره.