كل ما يخطر في بالنا من أفكار، وكل ما نشعر به من أحاسيس، لا يعدو كونه أكثر من ملء مساحات فارغة..
هل نحتاج أكثر إلى ملء الفراغ.. أم إلى استعادة الإحساس به من جديد، أكثر..؟
وهل الحبّ سوى لعبة خلق توازن بين ملء وفراغ..؟
الامتلاء والتفريغ.. كلمتان متلازمتان على الرغم من طبيعتهما (الضدية).
ما نفعله هو أننا نلعب هذه اللعبة المتناوبة بين المفردتين..نشعر بوجود حيز “فارغ”، سواء أكان مادياً ملموساً أم معنوياً، ثم نسعى إلى جعله ممتلئاً.. إلى تعبئته لسدّ نقصٍ ما أو حاجة.. وبعد الإحساس بفيض الامتلاء يغدو مع الوقت عبئاً، نسعى مجدداً إلى التخلّص منه واستعادة الرغبة باستشعار الفراغ.. كأنه نوع من حريّة لذيذة غير مكتشفة إلا لحظة (التخلّي).
هل نتجدد مع كل (تخلٍّ)، بوصفه عيشاً لفراغٍ ما..؟ نيتشه كان يرى: “من لا يستطيع التخلّي عن شيء، لا يستطيع الإحساس بأي شيء”.
مع كل (تخلّصٍ)، من أشيائنا التي تختزل ماضينا وذكرياتنا، ثمّة فسحة من عيشٍ مخبّأ بإمكانية جديدة لاكتشاف ما وراء حيّز المساحة الناتج عن (التخلص/التخلّي). صحيح أننا نرى فيها لحظات حياة لا يراها الآخرون ولكن بنفس الوقت نرى القدرة على خلق الجديد الكامن خلف الاستغناء والتخلص.. (فكل ما نتركه وراءنا يتحوّل إلى ضوء).
أيضاً الشطب والحذف.. كلاهما نوع من استعادة الفراغ “الإيجابي”.. لاسيما في عالمنا القائم على تواصل يعتمد على أجهزة “ذكية” تمتلئ بتطبيقات (الدردشة).. ولهذا يغدو “الحذف” إنعاشاً لمساحاتٍ جديدة من ذاكرتنا.. ليس إلغاءً لذكرياتنا وكلماتنا أو حتى وعودنا للآخر.. وليس تقليصاً لحضوره داخلنا.. مقدار ما هو حالة عيش ولادة جديدة.. وخلق إمكانية للاكتشاف الدائم والمتواصل.. كأنه نوع من النبش في دواخلنا لتحصيل المختلف، الحي، والمتجدد. الفراغ هو طريق للامتلاء.. والتناوب بينهما دفقٌ لا ينتهي..