هل حقاً أصبحت حضارتنا المعاصرة حضارة عرجاء تسير على قدم واحدة إذ تتفاقم من حولنا المشكلات الاقتصادية، والأخرى البيئية، والسكانية، وتتفجر الحروب، والفتن في شتى بقاع الأرض، بينما يتطور العلم في إنجازاته المبهرة تطوراً سريعاً يصل إلى كل مجالات الحياة؟
والعلم هذا الذي أوجد حلولاً كانت من قبل مستحيلة يقف حائراً، وباحثاً عن حلول جديدة تنقذ العالم مما حل به من مشكلات على صعيد المال والاقتصاد، وتفشي الأوبئة والأمراض، والانفجار السكاني، والتحاق الصغار بعوالم الطيش، والحروب، والاستغلال، وطغيان المصالح الكبرى للدول الكبرى، والمجاعات القائمة منها والقادمة، والتلوث البيئي، وربما الأخلاقي أيضاً، وتغيّر المناخ، وشح المياه، والتصحر، إلى جانب مشكلات أخرى كثيرة منها الظاهر، ومنها المستتر.
وإذا كانت سنّة الحياة بأن تجدد الحياة نفسها من داخلها كما الشجرة عندما تجدد أوراقها، وكما كل المخلوقات عندما تتكاثر، وهي بالتالي تستميت في الدفاع عن صغارها، وحتى عن بيوضها.. فماذا نحن فاعلون للدفاع عن وجودنا في ظل واقع قائم أصبح قاتماً بعد أن كثرت فيه المشكلات، وتنوعت أسبابها، وهي تضعنا في مفترق للطرق؟ ونحن كبشر مادمنا نمتاز بالعقل عن باقي المخلوقات، وبالفطرة المعجونة بالذكاء، والعلم يمدنا من وراء ذلك بما تطور من معارفه، وأدواته، وما أصبحنا نملكه من إمكانات هائلة أوصلتنا إلى اختراق الفضاء، واكتشاف المجرات القريبة منها، والبعيدة.. فلماذا إذن أصبحنا رغم كل ذلك لا نعي حقيقة أن علينا المحافظة على الإنسان من كل الشرور بما فيها شرور الرقمية على الرغم مما تنطوي عليه من إيجابية، وبالقدر ذاته الذي يجب علينا أن نحافظ به على كوكبنا الذي نسكنه درءاً للانتهاكات التي نقترفها بحقه، وبحق بعضنا بعضاً؟
فالأرض مثلاً قادرة على أن تدافع عن نفسها من خلال الظواهر الطبيعية الجائرة التي أصبحنا نصطدم بها في العقود الأخيرة من الزمن كالزلازل، وثورات البراكين، وحرائق الغابات، وذوبان ثلوج القطب، والأعاصير، وغير ذلك كثير.. أما الإنسان فليس أمامه سوى أن يتنبه إلى مخاطر ما يتسبب به من تدمير لنفسه، ولبيئته التي يعيش فيها، وإخلال في ميزان أمنه الغذائي.. والمسؤولية هنا هي جماعية تتوزع بين دول العالم، ولا تقع على عاتق دولة دون أخرى، والمجتمع العالمي الذي يُفترض أنه واحد، وإن لم يكن واحداً فهو على الأقل متشابهاً في واجباته، وفي تحمل مسؤولياتة للحفاظ على بيئة الأرض، وعلى مَنْ يسكنها.
بماذا إذن ستفيد الحضارة من تقدمها إذا كانت لا تستطيع أن تجعل الإنسان يعيش في بيئة طبيعية، إن لم نقل مثالية، تضمن الحياة الآمنة له، ولأجياله المستقبلية من سلالته البشرية؟.. لعل ذلك كله يشكل مأساة من مآسي عصر الحضارة الذي نعيشه، أو هي ضريبة باهظة الثمن تدفعها البشرية مقابل تفوقها التكنولوجي الذي أغمض عينها بالتالي عن ضرورة تفوقها الإنساني أولاً وقبل أي شيء.. بل إنه النهم لاستنزاف البشر والحجر، وموارد هذا الكوكب الذي بات مسكيناً، علماً بأن الميزان لو كان عادلاً ولو في أدنى حدود العدل، والأرض سخية بكنوزها، وعملنا على أن نسخّر هذا العلم الذي وصلنا إليه لإنماء الأرض، وبناء الإنسان فيها، لا للهدم، ونقص الأعمار، مضافاً إليه هذا التقدم التكنولوجي الذي نفاخر به لانتعش شريان الحياة منا، ولتحققت معادلة السلام، والوئام.
وإذا كانت الحضارة لا تستطيع أن تحمي أبناءها مما يتعرضون له فالأفضل لها وهي في صعودها أن تبحث لها عن قدمين سليمتين تقف عليهما في مواجهة ما اختل من ميزانها قبل أن تستمر في مشيتها العرجاء هذه.
* * *