الثورة :
منذ بداية عام 2022 شهد العالم سلسلة صدمات وأزمات كبيرة وخطيرة، فبمجرد أن بدأت ملامح التعافي الدائم من كورونا تلوح بالأفق، كان على اقتصاديات الدول الغنية أن تواجه سلسلة من الأزمات لا تقل خطراً عن جائحة كورونا، كازدياد الاختلالات والضغوط على سلاسل التوريد والإنتاج العالمية، ارتفاع تكلفة النقل البري والبحري وفرض الصين قيود حظر شديدة في مطلع هذا العام.
تداعيات هذه الأزمات على أوروبا والولايات المتحدة خطيرة ومتعددة، كارتفاع في أسعار الطاقة والمواد الأولية على مستوى أوروبا والعالم، تجذر واستفحال التضخم وانتشاره بأغلب دول العالم الغربي وازدياد هشاشة النظام المالي للدول الغربية والعالم.
وجاءت الحرب في أوكرانيا لتزيد من وطأة الضغوط السعرية وتفاقم الآثار آنفة الذكر ولتنذر ليس فقط بخطر حدوث نوع جديد من الأزمات الاقتصادية، كأزمة الكساد التضخمي (نظام يتميز بتباطؤ في النمو الاقتصادي مقترن بارتفاع حاد في التضخم)، بل لتعلن أيضاً بمستقبل قاتم وغير مؤكد لاقتصادات العالم الغربي.
في هذا السياق وأمام هذه المتغيرات الجديدة والخطيرة، هل يمكننا القول بأن أوروبا وأمريكا هم فعلًا على أعتاب أزمة ركود تضخمية (على غرار التي حدثت في السبعينيات)؟ الإجابة على هذا السؤال في الفقرات التالية:
أ- تتالي الأزمات والصدمات منذ بدء جائحة كورونا عام ٢٠٢٠.
* الاختلالات في سلاسل الإمداد والإنتاج العالمية التي ولدّتها أزمة كورونا فقد أدت قيود الحظر الصارمة التي فرضتها الدول الغربية والصين وبقية دول العالم في أعقاب جائحة كورونا إلى توقف جزئي أو كلي للنشاط الاقتصادي ببعض القطعات أو الموانئ أو الشركات، ما تسبب في ارتفاع حاد في معدلات التضخم نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة والمواد الأولية وازدياد حدة توترات العرض والطلب.
الديناميكيات المتعاكسة لقوى العرض والطلب التي أنتجتها إجراءات الحصار الصارمة في اقتصاديات أمريكا وأوروبا أدت إلى زيادة حدة الاختلالات ما بين العرض والطلب في هذه الدول، ففي الوقت الذي بقي فيه الاستهلاك محافظًا نسبيًا على مستواه نتيجة سياسات الدعم السخية التي اتبعتها الدول الغربية، عانى العرض من نقص حاد في المنتجات الاستهلاكية النهائية والوسيطة نتيجة ارتفاع تكاليف الشحن وأسعار الوقود وازدياد الضغوط على سلاسل التوريد.
المحصلة النهائية لمثل هذه الديناميكيات المتعاكسة كان ارتفاع حاد في معدلات التضخم كنتيجة لارتفاع أسعار الطاقة والغذاء وتزايد حدة الاختلالات بين العرض والطلب، ما دفع بالبنوك المركزية للدول الغربية (وخاصة الاحتياطي الفيدرالي وبريطانيا) إلى تشديد سياساتها النقدية من خلال البدء برفع سعر الفائدة منذ نهاية العام الماضي.
* أزمة الطاقة والغذاء قبل اندلاع الحرب في أوكرانيا
أدى رفع إجراءات الحظر من قبل الدول الغربية إلى انطلاق قوي وفعال للنشاط الاقتصادي في هذه الدول، إذ سجلت اقتصاديات الدول الغربية، وبقية أغلب دول العالم، معدلات نمو اقتصادي عالية جداً تجاوزت الـ 6 % قد تكون الأعلى منذ الحرب العالمية الثانية، ما زاد من الضغوط على أسعار الطاقة والغذاء.
قبل اندلاع الحرب في أوكرانيا بدأت اقتصاديات الدول الغربية تعاني إذاً من ارتفاع ملحوظ في أسعار الطاقة والغذاء على حدّ سواء، إذ سجلت أسعار الغاز الأوربي، وعلى درجة أقل النفط، ارتفاعاً هاماً بسبب التزايد الكبير في النمو والطلب العالمي وانخفاض إمكانيات الإنتاج في الدول النفطية والمنتجة للغاز، بالتوازي، سجلت أسعار الغذاء ارتفاعاً عالياً نسبيًا بسبب إجراءات الحظر والاختلالات في سلاسل الإنتاج والتوريد.
والمحصلة الرئيسية لزيادة أسعار الطاقة والغذاء كانت أولاً ارتفاع هام في أسعار السلع الاستهلاكية النهائية ما أدى إلى انخفاض كبير في القوة الشرائية للأسر والطبقات الفقيرة.
والنتيجة الثانية والتي لا تقل أهمية عن الأولى هي ارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج والسلع الوسيطة ما دفع بمسؤولي الشركات الخاصة إلى ضرورة المفاضلة بين السياسة الواجب اتباعها وتداعياتها: سياسة اللجوء إلى تخفيض هامش الربح أو سياسة رفع الأسعار النهائية للمنتجات الاستهلاكية مع ما يتبع ذالك من تداعيات على الحالة المالية والإنتاجية لهذه الشركات وعلى الحالة الاقتصادية العامة للبلاد.
* الحرب في أوكرانيا وتزايد المخاطر الاقتصادية والجيوسياسية في أوروبا
اندلاع الحرب في أوكرانيا جاء في توقيت حساس جدًا لعدة أسباب، أولاً لأن اقتصاديات دول منطقة اليورو وأمريكا لم تتعاف بعد بشكل كامل من عواقب جائحة كورونا، وما ترتب عليها من أزمات في الطاقة والغذاء وارتفاع معدلات التضخم.
ثانيًا على صعيد المالية العامة، اندلاع الحرب في أوكرانيا سيؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع الأولية وزيادة أسعار الفائدة العالمية ما سيساهم في تقليص الحيز المالي بدرجة أكبر من الآن وصاعدًا لدى الحكومات الغربية.
ثالثًا أدى اندلاع الحرب في أوكرانيا إلى تفاقم الضغوط والاختلالات في سلسلة الإمداد التي لحقت بالاقتصاد العالمي في السنوات الأخيرة، وستنتشر آثار هذه الصدمات على مدى بعيد ونطاق واسع من خلال أسواق السلع الأولية والتجارة والروابط المالية، فروسيا من كبار موردي النفط والغاز والمعادن، كما تعد هي وأوكرانيا من كبار موردي القمح والذرة، لذلك فقد أدى التراجع في إمدادات هذه السلع الأولية إلى ارتفاع حاد في أسعارها.
وأخيرًا، بالنظر إلى المكانة المرموقة التي تحتلها روسيا من حيث الطاقة والموارد المعدنية والأولية، فإن اندلاع الحرب في أوكرانيا وسلسلة العقوبات والعقوبات المضادة التي تلت ذالك، لا يمكن إلا أن تؤدي إلى تفاقم الآثار الناجمة عن أزمة الطاقة والزراعة سالفة الذكر، وتعاظم من نقص إمدادات الطاقة.
في عام ٢٠٢٠ شكلت روسيا ١٩ ٪ من صادرات الغاز والقمح العالمية و١٢ ٪ من النفط الخام، كما دفعت العقوبات والحظر المفروض على النفط الروسي، سعر البرميل إلى ارتفاعات جديدة خلال أشهر آذار، أيار وحزيران، أكثر من ١١٥ دولاراً، قبل أن يتراجع إلى حوالي ١٠٠ في الوقت الحاضر.
والوضع أكثر إثارة للقلق في منطقة اليورو اعتماد الاتحاد الأوربي الكبير على الغاز الروسي حوالي ٤٥ ٪ المتعلقة بنقل واستخدام الغاز الطبيعي المسال تجعل من الصعب للغاية العثور على موردين جدد لاستبدال الغاز الروسي، على الأقل في المدى القصير، لذلك ليس من المستغرب أن تزداد المخاطر وعدم اليقين وأن تحطم أسعار الغاز في أوروبا أرقامًا قياسية جديدة في القادم من الأيام.
ب – تأثير الصدمات المتعددة على التضخم والنمو في أوروبا والولايات المتحدة
١- صعود معدلات التضخم في العالم الغربي
رغم أن منطقة اليورو تعد تاريخيًا الأقل من ناحية معدلات التضخم مقارنة بغيرها من الكتل الاقتصادية الرئيسية في العالم، لكن ارتفاع أسعار الغذاء مع استمرار العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وارتفاع أسعار الطاقة حتى منذ ما قبل بدء الأزمة، مع تفاقمها بسبب تداعيات العقوبات على روسيا، كل هذا أدى إلى زيادة الضغوط التضخمية في الدول الأوروبية.
فوفقًا لمكتب الإحصاءات الأوروبي “يوروستات”، أن نسبة التضخم في أوروبا بلغت في حزيران/يونيو 8,6% بوتيرة سنوية، بعدما سجلت 7,4% في نيسان/أبريل و8,1% في أيار/مايو، وهي أعلى أرقام يسجلها يوروستات منذ بدء صدور المؤشر في كانون الثاني/يناير 1997 ما دفع البنك المركزي الأوربي إلى زيادة أسعار الفائدة الرئيسية بمقدار 0,5 % في شهر تموز الماضي لأول مرة منذ أحد عشر عامًا. لكن الوضع الحالي وتوقعات استمرار معدلات التضخم فى الارتفاع مع زيادة تأثير تبعات الأزمة الأوكرانية واحتمالات قطع إمدادات الطاقة من روسيا، أمور ستدفع البنك المركزي الأوروبي إلى تشديد السياسة النقدية بقوة وبسرعة عما كان مقدراً سابقاً.
كما سجل التضخم رقماً قياسياً جديداً في الولايات المتحدة إذ بلغ 9.1 % في يونيو / حزيران الماضي وهو أعلى رقم منذ أربعين عامًا، ما دفع البنك الاحتياطي الفدرالي الأميركي إلى رفع سعر الفائدة في شهر آب بمقدار ثلاثة أرباع نقطة مئوية. وهذه هي الزيادة الرابعة في سعر الفائدة هذا العام، بعد ربع نقطة في آذار الفائت ونصف نقطة في أيار الفائت وثلاثة أرباع نقطة في حزيران الفائت.
٢- الانخفاض السريع في معدلات النمو الاقتصادي في أوروبا والعالم
إذا ما كان الركود أكثر احتمالاً في بريطانيا في غضون الأشهر القليلة المقبلة، فإن اقتصاد دول منطقة اليورو أخذ في التباطؤ بالفعل كما يظهر من بيانات النشاط الاقتصادي المتتالية في الأسابيع الماضية، ومن شأن الإسراع في زيادة سعر الفائدة على اليورو وبنسب كبيرة أن يبطئ النشاط الاقتصادي أكثر ويعجل بالركود ربما هذا العام وليس العام المقبل كما هو متوقع.
فمثلًا حذر صندوق النقد الدولي، في توقعاته الأخيرة، التى نشرت في ٢٦ يوليو، من أن الأشهر المقبلة ستكون قاتمة بالنسبة للنمو الاقتصادي العالمي، إذ تتوقع المؤسسة المالية نموًا عالمياً في عام 2022 بنسبة 3.2 ٪. أي أقل بواقع 0.4 ٪ عن توقعات أبريل/نيسان الماضي. وقياساً على نمو بنسبة 6.1 ٪ في العام الماضي.
كما خفض الصندوق توقُّعاته لنمو اقتصاد الولايات المتحدة للعامين الحالي والمقبل إلى 2.3 ٪ و ١٪ على التوالي قياساً على نمو متوقع بـ 3.7 ٪ و2.3 ٪ في توقعات أبريل/نيسان
وقلص صندوق النقد الدولي، توقعات نمو الاقتصاد الصيني إلى 3.3 ٪ بما يقل بمقدار 1.1 ٪ عن التوقعات السابقة. كما تم خفض توقعات نمو اقتصاد منطقة اليورو إلى 2.6٪ في العام الحالي. ثم إلى 1.2 ٪ بالعام المقبل، قياساً على توقعات 2.8 ٪ و2.3 ٪ على التوالي بتوقعات أبريل/ نيسان.
٣- أصبح خطر التضخم المصحوب بالركود أكثر وضوحًا في أوروبا والولايات المتحدة
تشير الإحصائيات السابقة إلى أن العالم الغربي يمر حاليًا بفترة من الاضطرابات والتقلبات الشديدة غير المعهودة في التاريخ الحديث، فهل بات العالم الغربي على أعتاب خطوات قليلة من الدخول في حالة الركود التضخمي، ليعيد للأذهان تجربة الكساد الاقتصادي في سبعينيات القرن الماضي؟ أي ارتفاع حاد في الأسعار في ظل انكماش النمو الاقتصادي وتفاقم معدلات البطالة.
قد يكون من المبكر بعض الشيء تأكيد دخول اقتصادات منطقة اليورو في نظام التضخم المصحوب بالركود، إلا أن احتمال حدوث تهدئة تعيد اقتصادات هذه الدول إلى مسار نموها الطبيعي تتضاءل بشكل كبير. مع ذلك إشارات التحذير تظهر للأسف أن الديناميكية تسير في هذا الاتجاه، فالتضخم المتسارع، وارتفاع أسعار الطاقة والسلع، وانخفاض قيمة اليورو مقابل الدولار، والتوترات في سلاسل التوريد والإنتاج، وارتفاع الأجور والمعاشات في فرنسا وأوروبا، والحرب في أوكرانيا، والتباطؤ في النمو الاقتصادي الأوروبي، وتناقص حيز السياسات المالية للحكومات الأوربية، كلها مؤشرات تشير إلى أن مستقبل اقتصاديات منطقة اليورو لعامي 2022 و 2023 قاتم وأكثر هشاشة بدرجة تتجاوز النطاق المعتاد، إذ من الممكن أن يزداد تباطؤ النمو الاقتصادي في هذه الدول، بينما يتجاوز التضخم توقعات صندوق النقد الدولي بشكل كبير.
في ظل هذه الأوضاع الصعبة تكتسب السياسات المتبعة دوراً هاماً، إذ يتعين مثلًا على البنوك المركزية تعديل سياساتها بشكل كبير لضمان صحة توقعاتها التضخمية على المدى المتوسط والطويل من أجل الحد قدر الإمكان من خطر التصحيحات المربكة، كما يتعين على حكومات بعض الدول ضبط سياساتها المالية دون المس بسياسة الدعم الحكومي للفئات السكانية الأكثر فقرًا من أجل مواجهة ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء.
إلا أن ارتفاع أسعار الفائدة والحاجة إلى حماية الفئات السكانية الضعيفة يجعلان الحفاظ على استدامة المالية العامة أشد صعوبة ويزيدان من تآكل الحيز المالي ما يزيد من صعوبة الاستثمار في المجلات الأخرى من الاقتصاد، بمعنى آخر، احتمال تلافي أوروبا والعالم الغربي لأزمة كساد تضخمي كالتي حدثت في سبعينيات القرن الماضي يزداد ضعفًا من يوم لآخر.
الدكتور جوليان بدور
باحث وأكاديمي من أصل سوري في جامعة لارينيون الفرنسية