الثورة – لميس علي:
من الممكن أن نعثر على تقاطعات غير مرئية، ما بين فيلم وثائقي وآخر روائي طويل..
فيلم معبّأ بالمعلومات يعرضها بطريقة مباشرة.. وآخر يمنح المتلقي بُعداً تخييلاً لواقع ما.
في فيلم تحدث عن ميشيل فوكو، تُرصف حقائق عنه ندركها للمرة الأولى، إلى جانب بعضها، تُحيل إلى بُعد مجتمعي نتلمّسه في عمل سينمائي طويل.
عندما انضم فوكو عام 1946م، إلى المدرسة العليا للنخبة في باريس بدأ يتصرف بطريقة تستدعي التفسير النفسي. شخّص الأطباء وضعه بالإجهاد العقلي بعد محاولته الانتحار وقيامه بتشويه الذات المفرط.
مع أنه كان في تلك الفترة هو الإنسان الذي من المقرر أن يصبح أحد أبرز منتقدي المواقف الغربية في العالم تجاه الجنون.
تُذكر هذه المعلومات بفيلم وثائقي صوّره المخرج ديفيد ستيوارت عام 1993، عن فوكو..
فالسؤال متى يكون الشخص مجنوناً خاصة عندما يكون شخصية عامة في خضم عمل إبداعي كان أمراً موحياً بالنسبة لفوكو.. والحدّ الفاصل بين الجنون والعقلانية أصبح الموضوع الأهم بالنسبة له.. فجاءت أطروحة الدكتوراه لديه بعنوان: الجنون والحضارة “تأريخ الجنون في العصر الكلاسيكي”.
لم ينظر فوكو إلى الجنون على أنه مرض عقلي بل كان “يعتقد أن الجنون نمط من الفكر المستقل، وشكل من أشكال الوجود الأصيل وهو ينطوي على قيم جمالية ونظرة للإنسان والحياة والعالم، وهي عوالم رمزية مهما تطور الطب العقلي سيبقى عاجزاً عن الإلمام بها”.
في الفيلم نفسه، ثمة محاكاة لأحد مؤلفات كاتب السير “هيرفي غويبيرت” متحدثاً عن المرض: “لقد كنت أحاول أن أكتشف الشيء الأنيق رغم بشاعة كل هذا… رحلة طويلة من الخطوات التي ستؤدي إلى الموت، ولكن كل خطوة تمثل تدريباً مهنياً مستقلاً. لقد كان مرضاً قد منح الموت وقتاً للعيش، ووقتاً يموت فيه ضحاياه بوعي، ووقتاً لاكتشاف الزمن وفي النهاية لاكتشاف الحياة”..
لا يوضح الفيلم الوثائقي فيما إن كان المرض الذي يذكره “غويبيرت” هو الجنون.. وبكل الأحوال يبدو المرض/الجنون حالة إيحاء وإلهام تمنح الكثير لمن يستطيع استثمارها.
غالباً، تمكّن فوكو من ملاعبة حالته مع المرض.. لأنه لم ينظر إليه مرضاً بل وسيلة للحفر ضمن الذات والانغماس فيها أكثر.. ولأنه نجح باستغلال واستثمار حالة “الإجهاد العقلي”- كما شخص الأطباء وضعه، كان أصدقاؤه يعتبرونه (نصف مجنون).
كل ذلك حين يصيب المرض/الجنون، أو حالة الإجهاد العقلي، الفرد، فكيف الحال حين تصاب المجتمعات بحالات لأمراض غير مشخصة سريرياً.. إنما ذهنياً.. وربما فكرياً..؟!
هل كانت حالة من الإجهاد الذهني.. أو القصور الفكري الجمعي تلك التي تحدّث عنها الفيلم الكوري (مذكرات جريمة)، كما عُرضت حكايته..؟
الفيلم الذي قُدّم ضمن فعالية “بيت السينما” مؤخراً، يسرد كيف فشلت السلطات المحلية باكتشاف قاتل يستهدف الفتيات خلال حقبة الدكتاتورية العسكرية والأحكام العرفية..
وكأنها فترة غنية لتوصيف أمراض مجتمع بحاله.. أمراض غير الملموسة حسيّاً، إنما ذهنياً وفكرياً..
وبالتالي تصاب هكذا مجتمعات بحالات إجهاد عقلي “جمعي”.
على رقعة مجتمعية شديدة الوضوح يغزل المخرج الكوري الجنوبي (بونغ جون هو) حكايته الغائرة في عمق مجتمعه.. يصوب عدسته نحو العلّة دون أن يذكر توصيفاً لها.
يذكّر العمل بحالات غنية لأمراض مجتمعية لم يتغافل عنها فوكو.. فهل كان مجتمع (مذكرات جريمة)، بعيداً عن فكرة السجون، الزنازين، أو حالات العزل عن الآخر.. وبالنتيجة القصور والتراجع إلى الخلف..؟
يبدو أن المرض/الجنون، بوصفه حالة فردية إبداعية ينمو ليصبح أكثر من خير.. وكذلك في الحالات الجمعية، يتضاعف ويتكاثر ليصبح أبعد من شرّ.