الملحق الثقافي- فؤاد مسعد :
لا تنفصل السينما كفعل إبداعي له حضوره ضمن المشهد الثقافي السوري عن حال الكثير من مجالات الإبداع الأخرى (المسرح والفن التشكيلي والشعر والرواية..) وإن كان لكل منها خصوصيته وآليات حضوره، وإن كانت السينما لم تشكل حالة متكاملة خاصة في ظل غياب الطقس السينمائي وندرة الصالات المجهزة بشكل جيد واختفاء القطاع الخاص عن المشهد إلا في حالات خجولة إضافة إلى العديد من الصعوبات الأخرى ومنها تأمين البنى التحتية والتجهيزات، وظروف الحصار على السورية فيما يتعلق بحضور الفيلم السوري في الخارج أو استيراد المعدات والتقنيات الحديثة، إلا أنها استطاعت رغم ذلك كله أن تكون مركز ثقل في الكثير من الأحيان عبر بروزها كعنصر فاعل ومؤثر في المشهد الثقافي كله، فسعت الكثير من الأفلام السورية لأن تكون سفيراً حقيقياً لسورية يُظهِر وجهاً حضارياً راقياً وأن تمارس دورها على صعيد التنوير والتوعية وتحريض الفكر، وتمكنت المؤسسة العامة للسينما عبر ما أنتجت من أفلام الولوج إلى عمق القضايا والهموم التي تمس حياة المواطن العربي عموماً والسوري خصوصاً، فطرح مبدعوها موقفهم من الحياة، هذا الموقف غير الحيادي الذي يعكس رؤى ويثير أسئلة، وتنوعت موضوعات هذه الأفلام، ومن أهم القضايا التي تناولتها: الهوية وانتماء، القضية الفلسطينية واللاجئون، الحرب التي شنت على سورية وما تركت من تداعيات وانعكاسات على المجتمع، الجندي السوري، الأصالة والتراث، الحب، المهمشون، الفساد، العادات والتقاليد ومحاولة التمرد على البالي منها، نظرة المجتمع إلى المرأة، هزائم الإنسان العربي في لحظات تاريخية مهمة في محاولة لقراءتها واستشراف الحاضر والمستقبل من خلالها، لتشكل في معظمها تجارب تحوي مضموناً مهماً، ولغة بصرية سينمائية بعيدة عن الاعتيادي، وإن تنوعت في مستوياتها وموضوعاتها ومشاربها الإخراجية.
ولدى تتبع ما قدمته المؤسسة العامة للسينما عبر تاريخها من أفلام نجد أن الكثير منها نال جوائز في العديد من المهرجانات، منها: مهرجان فريبورغ في سويسرا، مهرجان فالانسيا في إسبانيا، مهرجان دلهي، مهرجان روما للسينما الآسيوية، مهرجان البرتغال، مهرجان لايبزيغ، مهرجان مونبيليه بفرنسا، مهرجان الفيلم العربي بباريس، مهرجان الرباط السينمائي الدولي، مهرجان سلا لأفلام المرأة في المغرب، مهرجان قرطاج، مهرجان بغداد، مهرجان دبي، مهرجان وهران، مهرجان القاهرة، مهرجان الاسكندرية لدول البحر المتوسط، .. هذا الحضور الذي انحسر فيما بعد إلى مجموعة محددة من المهرجانات المهمة لعدة أسباب منها محدودية المهرجانات التي باتت تستقبل الفيلم السوري بسبب الحصار.
كان هناك إصرار بأن يكون للسينما حضورها البارز خاصة خلال السنوات العشر الأخيرة، وهي السنوات التي تعرضت فيها سورية إلى حرب همجية سعت إلى محاولة إطفاء جذوة النور عبر التدمير والتخريب والترهيب، وطالت تلك المحاولات مختلف مناحي الحياة بما فيها الفن السابع الذي استطاع أن يكون شعلة مضيئة وحراكاً متنوع الجوانب والأهداف، لا بل استمر بدفع أكبر وأقوى، فعلى الرغم من تعليق الدورة (19) من مهرجان دمشق السينمائي عام 2011، إلا أن وتيرة العمل تسارعت في مناحٍ أخرى وازداد الإنتاج السينمائي ما بين أفلام طويلة وقصيرة، وأقيمت العروض السينمائية في صالات الكندي ودار الأسد للثقافة والفنون والمراكز الثقافية إضافة إلى سينما الهواء الطلق، وتزايد عدد التظاهرات السينمائية المتنوعة في المحافظات السورية، ودخلت سينما كندي دمر في الخدمة الفعلية في الأشهر الأولى من عام 2011، وفي العام الذي تلاه اطلقت المؤسسة العامة للسينما – وزارة الثقافة مشروع دعم سينما الشباب الذي بدأت فكرته كحلم ما لبث أن تُرجِم على أرض الواقع أفعالاً بات لها حضورها ويجمع فيما بينها أن النسغ المغذي لها من الشباب المتحمس المتسلح بالموهبة والمعرفة وبالروح الوقّادة للتجريب، لتغدو هذه التجارب مع الوقت وتراكم الخبرة حراكاً فنياً ثقافياً سينمائياً يرفد الحراك القائم، ويكون له لونه المتفرد الذي يمايزه ويعكس مدى أهميته في تأسيس صناعة سينمائية بيد شباب مبدع، وسعت المؤسسة العامة للسينما إلى تقديم مختلف الوسائل الكفيلة بإنضاج المشروع بما فيها المعدات التقنية والمونتاج ومبلغ مالي للإنتاج.
لم يقف نهج التوجه إلى الشباب عند هذه الخطوة وإنما استمر وتطور وأثمر عن إطلاق مهرجان سينما الشباب والأفلام القصيرة عام 2014، وفي العام الذي تلاه افتتحت دورات دبلوم العلوم السينمائية وفنونها بالتعاون مع المركز العربي للتدريب الإذاعي والتلفزيوني، لتشكّل الحامل الأكاديمي للمواهب الساعية إلى خوض غمار الفن السابع، كما أطلِقت مسابقة للسيناريو، وافتتحت المكتبة الوطنية السينمائية (السينما تك) في كندي دمشق، وتم الاهتمام بثقافة الطفل السينمائية بشكل أكبر سعياً إلى صقل المواهب ضمن هذا الإطار. وفيما يتعلق بالمطبوعات الورقية فقد صدرت مجموعة من الكتب السينمائية ضمن سلسلة الفن السابع، وتابعت المجلة الفصلية (الحياة السينمائية) الصدور مقدمة وجبة سينمائية تجول فيها على مفاصل من حراك الفن السابع محلياً وعربياً وعالمياً . وفي نهاية عام 2019 تم افتتاح صالة كندي اللاذقية بعد تحديثها. ويُحسب للحراك السينمائي في سورية ولادة المعهد العالي للفنون السينمائية، حيث أصدر السيد الرئيس بشار الأسد قانون رقم (6) لعام 2021 القاضي بإحداث المعهد بهدف تخريج المتخصصين في الفنون السينمائية والتدريب والتأهيل في مختلف مجالات الفن السينمائي بما يحقق نهضة فنية في هذه المجالات ووضع لبنة أساسية في تشييد البنيان الثقافي ودعم الحضور السينمائي السوري.
مما لا شك فيه أن السينما السورية تحتاج إلى الكثير لتأخذ دورها الكامل ضمن المجتمع، كما تحتاج إلى دخول القطاع الخاص بشجاعة وأن يُعطى التسهيلات اللازمة لذلك، ولكنها استطاعت ضمن المُتاح أن تبقى حاضرة وتفرض نفسها ويكون لها مكان متقدم على خارطة المشهد الثقافي كله رغم التحديات كلها وفي أحلك الأوقات وأصعبها، فهي فعل إبداعي متوقّد يشع بنوره وألقه وغناه وأصالته، هي فعل لا يصيبه الهرم أو الشيخوخة وإنما يعيش حالة من العطاء المتجدد والمستمر.
العدد 1110 – 6- 9-2022