كما نعلم فإن من الإنجازات الشامخة في سورية سد الفرات (الطبقة) الذي استوعب أعداداً كبيرة من العمالة السورية ومن مختلف الاختصاصات العلمية والمهنية للمساهمة بإنشاء واحد من أهم السدود السورية التي عُوِل عليها للانتقال بالزراعة السورية من البعل إلى المروي لتخضير الأرض وتحقيق استقرار غذائي وفائض في ميدان الحبوب والزراعات المختلفة.
هل نجحنا في هذا الأمر؟.. نعم حققنا النجاح بغض النظر عن سعي بعض المديرين في الماضي إلى تغليب مصالحه الشخصية وجني المكاسب، والخوض في هذا الجانب ليس غايتي الآن بل حكمة أخرى لها مضامينها الكبيرة.
على الأرض حققت الدولة السورية والشعب ما هو أهم بكثير حسب رأيي الشخصي وأراه في المجتمع الذي انخرط في بناء سد الطبقة (الثورة) ذاته، وتشغيله على مدى عقود.
فقد ضم ذاك التجمع مكونات وجغرافيا من مختلف المحافظات ليخلق نسيجاً سورياً متفاعلاً ومتماسكاً، ومن يرجع بالذاكرة إلى أيام مدينة الطبقة التي أصبح اسمها (الثورة) يؤيد ما قلته، ويضيف إليه الحالة الثقافية الرائدة في هذه المدينة التي كانت تستقطب أدباء ومفكري سورية في مركزها الثقافي حتى أصبحت وجهة مطلوبة من المهتمين بالسياسة والفكر والأدب لعلو مقام الثقافة هناك حيث شهدت تفاعلاً وحضوراً من أبناء محافظة الرقة وفيها الكثير من الأسماء التي نقف باحترام أمام حضورها في الأدب والفكر والشعر والرواية.
إلى هنا وكل شيء جميل وزاده جمالاً المنتزهات التي أقيمت على ضفاف بحيرة السد، (بحيرة الأسد)، فالمجتمع الجديد الذي نشأ في هذه البقعة الجغرافية امتدت آثاره إلى عموم المجتمع السوري لأنه شكل ظاهرة حضارية مدنية يبنى عليها للمستقبل.
وما أكثر الوطنيين الذين فرحت قلوبهم بهذه المدينة والمحافظة التي تؤسس لمستقبل سوري ننشده جميعاً خصوصاً وأننا في ثمانينيات القرن الماضي تعرضنا لهجمة عدوانية خارجية بأدوات داخلية تمثلت في تحرك للإخوان المسلمين كان هدفها تدمير سورية تحت عناوين مذهبية استخدمت فيها كل الأدوات القذرة مستنهضة العصب الطائفي والمذهبي والعشائري والمناطقي، وربما واجهناها بالميدان ولم نعط المواجهة الفكرية حقها، فالمواجهة الفكرية لم يكن لها أثر على الأرض وفي ذات الوقت كان الفكر المتطرف ينمو وينمو وتتعدد أسماؤه.
يراه أصحاب العقول المتفتحة الذين ليس لديهم أدوات مواجهة، فلا منابر ولا إمكانيات، وفي ظل التراخي كان هذا التطرف يواصل نموه بأشكال متعددة لكن رؤيته تحتاج إلى عيون ثاقبة وعقول ترتفع إلى مستوى الوطن.
كانت الواجهة الوهابية ستارة للإخوان المسلمين عبر دعوات للآلاف من السوريين إلى دول الخليج العربي مدفوعة التكاليف مقابل الولاء لهذا التطرف.
وإذا كان الذهاب إلى الخليج باسم العمل أو الحج أو كليهما فإن الخواتيم كانت تحصل على ضفاف بحيرة سد الفرات حيث يجتمع البعض من مناطق سورية متعددة لتشكيل فرق وتوطيد العلاقات فيما بينها ضمن مخطط أكبر، وقد ترافق ذلك مع عودة الفكر المذهبي وشد العصب العشائري وخصوصاً في بعض مناطق الريف السوري.
ما تقدم ليس من خيال إنما وقائع على الأرض حصلت وحصلت حتى داخل مجتمع الرقة بشكل عام وفي مدينة الطبقة (بشكل خاص)، وإذا كنت قد خصصت مجتمع الرقة والطبقة فلأنني رأيت منهما مجتمعاً راقياً وهذا ما جعل العمل يجري في الخفاء لتشويهه وإجهاض هذه الحالة الوطنية المتعايشة التي أنجزت سداً وبحيرة ومجتمعاً مثقفاً.
نتفق أن مجتمع الطبقة بنى سداً تعدت فوائده الزراعة والاخضرار وأهم ما أراه من وجهة نظري هو تآلف الجميع فيه على اختلاف منبتهم الذي اتسم برقي وحياة تليق بالسوريين أو تعكس طبيعتهم ورقيهم وأخلاقهم.
الحرب على سورية حاولت تشويهنا جميعاً تحقيقاً لخيانات ومؤامرات أيضاً، ولست بصدد تعداد أهدافها أو أضرارها، وما أرمي إليه هو كيف نخرج جميعاً من الحرب الظالمة إلى حياة سورية جامعة وأنا على ثقة بأن الجميع ينشدها وهو بقرارة نفسه بات يعرف أن لا مناص من عودة السوري إلى السوري وإلى سوريته، وهنا لا يستطيع أحد في العالم نكران حقيقة أن بقاء سورية بعد كل الآلام يعود إلى أمرين اثنين:
الأول الدولة السورية التي بقيت بفضل تضحيات السوريين، والثاني رغبة وإرادة السوريين أنفسهم ببقاء هذا الوطن وبالتالي الدولة باستثناءات محدودة باتت مكشوفة للجميع لأن مصالح هؤلاء تقاطعت مع مصالح الأعداء، وهؤلاء تاجروا بدمائنا وأعراضنا وكراماتنا وصرفوا لذلك أموالاً اكتنزوها من دمائنا ولقمة عيشنا ودمار بلدنا.
الفكرة الآن للخروج من أعباء ومتاعب ما جرى هو تعميم تجربة مدينة الطبقة الناجحة لنعيد إعمار سورية بأحسن مما كانت عليه، ونكافح عبر إعمار البادية وتحويلها إلى مناطق إنتاجية وبالتالي تخفيف الضغط على المدن القائمة.
أعرف أن هذا الهدف يحتاج إمكانات مادية كبيرة ولسنا كدولة قادرين الآن على توفير كل ذلك لكننا نستطيع ولو بالحد الأدنى توفير متطلبات ذلك عبر قروض تتحمل الدولة جزءاً منها ويتحمل المواطن السوري جزءاً آخر عبر ضرائب خفيفة على محدودي الدخل ومناسبة على أصحاب الدخل غير المحدد، ويضاف إلى ذلك أعمال الخير والتبرعات لمن يريد، فوزارة الأوقاف والنقابات والشؤون الاجتماعية ومن يريد من الأفراد سيكونون على أتم جهوزية بالتأكيد.
ومما نعلمه أنه يُجمع كل المعنيين بالشأن الزراعي أن البادية السورية بكاملها قابلة للزراعة وبالتالي تستطيع استيعاب الملايين الذين يبحثون عن عمل الآن وغداً، ومشروع راهن ومستقبلي كهذا إذا أحسن تنفيذه على كل المستويات والمناحي الحياتية كفيل بتحويل طاقات عملاقة لدينا إلى خلايا عمل إنتاجية تخفف الضغط والحاجة وتسهم في التنمية وتقوض البطالة، وطبعاً مشروع كبير من هذا النوع يحتاج تضافر جهودنا جميعاً، ويحتاج إلى تعاط من نوع يحاكي الواقع واحتياجات المستقبل وأن نستفيد من الأخطاء ونحصّن ركائز البناء.
عبد العزيز الشيباني