الملحق الثقافي-هنادة المصري:
حقيقة لابد من تبقى راسخة في الأذهان للأجيال كافة ألا وهي أن نصر تشرين الذي حققته سورية هو الذي وضع العالم على مفترق طرق..
الأمة التي كانت تجر أثواب الخيبة تلاحقها الهزيمة وتصبغ أيامها بالسواد..هذه الأمة بفعل التضحية والنصر الذي حققه الجيشان السوري والمصري ومعهما العرب وبغض النظر عن تفاصيل كثيرة ..هذا النصر هو نقطة تحول في مسارات السياسة والثقافة..
وللأسف لم يحسن العرب استثماره تماماً ولا صونه.
واليوم علينا أن نعلن أننا جميعاً مقصرون ..الشعر والرواية والفنون والسينما وغيرها..
لم نكن على مستوى استلهام الحدث إلا قلة من المبدعين الذين سيبقون وستبقى قصائدهم وأعمالهم وساما نتزين به ..وسيبقى تشرين النصر إيقونة الفداء.
ولابد من الإشارة إلى أنّ الدّراسات التي عنيت بأدب الحرب كانت قليلة جدّاً، وقد أشار إلى ذلك مؤلفا كتاب: أدب الحرب، الدكتورة نجاح العطّار، والروائي حنا مينه، صدر الكتاب عن وزارة الثقافة السوريّة عام 1976م، ضمن سلسلة الكتب القومّية وحمل الرقم (11) وقد جاء في مقدمة الكتاب: هذه فصول في أدب الحرب، كتب بعضها عقب حرب تشرين التحريريّة، وكتب بعضها الآخر بعد ذلك بقليل/ وقد ناقشنا فيها الآراء التي أثيرت آنذاك حول هذا الأدب، وحول دور الكلمة والفعل، وهل من تعارض بينهما، وهل الكلمة في صياغتها لوجدان الفاعل إلاّ فعل أيضاً؟
يرى المؤلفان (ص35) أنّه إذا كانت مهمّة الأدباء، حسب التعبير المعروف أن يهندسوا النفوس البشريّة، فإن هذه المهمّة في الحرب ترتفع إلى مستوى أعلى بكثير من مستواها زمن الّسلم، فالحرب باعبتارها استمراراً للسياسة بوسائل أخرى هي فعل طارىء على فعل مقيم، الفعل المقيم هو السّلم، والفعل الطّارىء هو الحرب التي تقطع مجرى السّلم لزمن محدود، ودور الكلمة الذي كان زمن السّلم هندسة النّفس البشريّة، يصبح زمن الحرب تحريض هذه النّفس على العمل بأقصى طاقتها وفق هندستها السّابقة.
بمعنى آخر كما يقول المؤلفان: إذا كان الأدباء زمن السّلم قد عملوا على بناء الإنسان المنتج، الباني، الحارس لإنتاجه وبنائه في مجموع وطنه من عدوان الغير عليه، فإنّ عليهم زمن الحرب أن يدفعوا هذا الإنسان إلى التّضحية دفاعاً عمّا أنتج وبنى، أي وطنه كلّه وشعبه كلّه.
والأدب هذا لونٌ خالدٌ أبد الدّهر، وقائع وبطولات فحسب، بل شاهداً على دور الكلمة فيها، الكلمة التي حاربت وانتصرت لأنّ أصحابها في ساعات المحنة التي عاشتها أوطانهم كانوا مع شعوبهم في خطوط النّار، ومسيرات المقاومة، وفي المصانع والمعامل، ولجان الدّفاع عن المدن المحاصرة التي ارتدت عنها جحافل الغزاة مدحورة.
إنّ الأدب صورة للواقع الإنسانيّ ووعيه، وهو فعل حياة، إنّه وجود متكامل لها، يستمدّ مقوماته من جماع فعل الإنسان فيها، ومن جماع رؤية الكاتب لهذا الفعل الإنسانيّ في ماضيه وحاضره ومستقبله. (ص40).
إنّ الشّعراء في الحروب التي تخوضها شعوبهم لأجل أرضها وحقّها ووجودها، يكونون بين النّاس، لأنّ للشعر كما الفولاذ، خنجراً مرهف النّصل، يقاتل إذ هو يصوغ وجدان المقاتلين، ويكافح إذ هو يدفع بهم إلى الكفاح بروح المفاداة التي ترتفع لتعانق الشّهادة ومنها النّصر. (ص45). وقد اختار المؤلفان نصوصاً من آداب العالم حول أدب الحرب، ومن نص بعنوان:
(إلى أمّهات الجنود الذين قتلوا)ص309
للشاعر بابلو نيرودا نقتطف: لا.. إنّهم ليسوا بأموات، إنّهم منتصبون وسط البارود، منتصبون كذبالات القناديل المشتعلة، وظلالهم النقيّة ممتزجة بالمرج الفضي ، كستارة مصفّحة من هواء، كسد هائل من لون، كالصّدر نفسه، صدر السّماء الذي لا تراه الإبصار، يا أمهاتهم: أنهم منتصبون في حقول القمر ، شامخون كالظّهيرة التي تبسط ظلّها على المدى | كدقات جرس، كالصّوت الأسود الذي يتعالى من جثث الضّحايا ، ليعلن النّصر.
أيّتها الأخوات اللائي سحقهن الأسى
أيّتها القلوب التي هدّها الحزن: آمنّ بأبنائكنّ الذين ماتوا
إنّهم ليسوا سوى جذور تحت الصّخور المصبوغة بالدمّ
وعظامهم المسكينة المنثورة لم تختلط بالثّرى
وأفواههم ما فتئت تعضّ البارود الجاف
وكخضمٍ من حديدٍ ما فتئوا يرتعشون
وقبضاتهم المرتفعة عاليا ًتتحدى الرّدى
من هذه الحياة المتساقطة تتشامخُ حياةٌ لاتُقهر
أمّهات وأطفال ورايات، كلّها كيان ٌواحدٌ حيّ كالحياة
ووجه ٌخافقُ العينين يراقبُ الظّّلماتِ
وسيفه المصلتُ تنفخه آمال التّراب
اخلعن أرديةَ الحداد، ووحْدن دموعكن
وحْدنها حتّى لاتغدو فولاذاً
فهناك..سنضرب ليل نهار
هناك سندقّ الأرض بأرجلنا ليل نهار
هناك سنبصق ليل نهار
إلى أنّ تندك أبواب الضغينة وتنهار
لن ننسى آلامكنّ فأنا أعرف ابناءكنّ
وأعتزّ بهم أمواتاً
إنّ ضحكاتهم تنير المعامل
وفي المترو ترنّ خطاهم إلى جانبي
كلّ يوم
وفي برتقال المشرق وشبّاك الجنوب
في مداد المطابع وورش البناء
ألمح قلوبهم تتوهج بالذشاط واللهب
أيّتها الأمهات:
إنّ في قلبي كثيراً من الموت والأسى
كما في قلوبكن
فهو كغابة أخصبها الدم الي غيض بسماتكن
واقتحمها ضباب اليقظة الخانق
والعزلة الممزقة، عزلة الأيّام
وبدلاً من أن تصغي إلى الضّياع
وإلى الغطيط الوحشي ّ
الذي يعوي بشتائمه الدّنسة
وإلى غضب الازدراء والشّكوى
بدلاً من أن تصغي إلى كلّ ذلك
أيّتها الأمهات اللاتي أضناهن الانقباض والموت
تطلعن إلى قلب الفجر النّبيل الذي يولد
واعلمن أنّ موتاكنّ ينسحبون من هذه الأرض
وأنّ قبضاتهم المرتفعة ترتعش فوق حقول القمح (ص 30-312)
ويقدّم الكتاب مختارات من الشّعر المقاوم في العالم، من الصين وفيتنام والوطن العربي.
ويمكن الإشارة إلى أنّ دار التقدم، موسكو، كانت قد أصدرت مختارات من أشعار مقاومة عام 1976م ترجمها إلى العربيّة أبو بكر يوسف وماهر عسل، وجيلي عبد الرحمن، وفي الكتاب عددٌ كبيرٌ من من القصائد التي كتبها الشّعراء الروس من أجل الحريّة
ومن قصائد آنّا أخماتوف (1889-1966م)
تقول آنا اخماتوفا: عشت في طشقند وأنا أتحرّق شوقاً لالتقاط أخبار لينينغراد والجبهة، وكغيري من الشّعراء ألقيت أشعاري مراراً للمقاتلين الجرحى الذين يعالجون في المستشفيات…كانت الأشعار هي رباطي بالعصر وبالحياة الجديدة لشعبي (ص24) وعندما كنت أكتبها كنت أعيش على تلك الإيقاعات التي تتردد عبر التّاريخ البطوليّ لبلادي، وإنّي لسعيدة، إذ عشت هذه السّنوات ورأيت تلك الأحداث التي ليس لها نظير..
ومن المختارات أيضاً ما قدمه الشّاعر الفلسطينيّ الرّاحل هارون هاشم رشيد، في كتابه (الشّعر المقاتل في الأرض المحتلّة) وقد صدر عن المكتبة العصريّة في بيروت وصيدا، دون ذكر تاريخ، وهو يقدّم مختارات من شعر الأرض المحتلّة لـ/ محمود درويش، سميح القاسم، توفيق زياد، راشد الحسين، حبيب قهوجي، حنا أبو حنا، عيسى اللبواني، أماني الشيّاب.
ترى يمكننا هنا أن نطرح سؤالاً مهمّاً، هل كان الشعراء السوريون في الحرب العدوانيّة على سورية في خندق المواجهة، ماذا قّدموا وماذا فعلوا؟
العدد 1114 – 4- 10-2022