الملحق الثقافي- قصي عطية:
(حبٌّ في زمن الكورونا) هو عنوان المجموعة القصصية للكاتبة (نور عمران)، الصادرة عام 2021 عن دار أرواد للطباعة والنشر. وتتألف المجموعة من اثنتين وعشرين قصة، هي: (خيط الحياة، عذراً أيها الحب، أمويّة الهوى، كعب عال، أقنعة الحياة، لو، وسم، لقد وقعت في غرام أستاذي، حب في زمن الكورونا، خمرة الحياة، مونولوج، أمومة، حب في فضاء أزرق، الآنسة سين، ألوان الحب، في الليلة العشرين، طوفان، مخاض من رحم الموت، غباء، على مشارف الضوء، الغالية غالية، متّصل أبداً).
وسأقوم في هذا المقال بتحليل طريقة بناء الحوادث، في بعض قصص المجموعة، أو ما يمكن الاصطلاح على تسميته بـ (الحبكة).
الحبكة تعريفاً هي (فنّ ترتيب الحوادث، وسردها وتطويرها بحسب منطق الحياة والواقع)، وللحبكة نوعان: حبكة مُحكَمة: تقوم على حوادث مترابطة متلاحمة تسير في خط متدرّج متشابكة شيئاً فشيئاً حتّى تبلغ الذروة، ثمّ تنحدر إلى الحلّ، وعنصر التشويق هو الحيل التي يعمد إليها الكاتب لإرجاء الحل. وحبكة مفكّكة: يذكر فيها الكاتب أحداثاً متعدّدة غير مترابطة برابط السببية فيما بينها، وإنّما هي حوادث ومواقف وشخصيّات متفرّقة، قد لا يجمع بينها سوى أنّها تجري في مكان واحد أو زمان واحد.
والسؤال هنا، كيف رتّبت الكاتبة (نور عمران) حوادث قصصها، وهل نجحت في خلق عنصر التّشويق عند القارئ، وهل كانت الحوادث مفتعَلة أو كانت تنساب بعفوية وإتّقان؟
بالعودة إلى قصص المجموعة وتتبّع طريقة بناء الحوادث، سنجد أنّها استقت حوادث قصصها من واقع الحرب في سورية، وزمن الكورونا. ففي قصتها المعنونة بـ (كعب عالٍ) تبدأ الكاتبة قصّتها بتقنية الاسترجاع أو الاستذكار، على لسان البطل، وهو طبيب تُخبره زوجةُ أخيه (هند) بأنّ حبيبته (هيفاء) التي كان يحبّها قبل أن يتزوج منذ عشرين سنة قد عادت، فتستفيق الذكريات النائمة، وكأنّ الزمان كان متوقفاً عند الصورة التي رسمها لهيفاء بحذائها الأحمر ذي الكعب العالي، ويسترسل في الوصف لجمال ساقيها، وأنوثتها، ولا يصحو إلا على صوت (هند) ليقارن بين خشونتها وأنوثة (هيفاء) الاستثنائية.
يؤدّي هذا الوصف دوراً فعّالاً في رسم اللوحة الجميلة التي رسمها البطل في مخيّلته، والتي مازال يحتفظ بها عن هيفاء، وإن بدا للوهلة الأولى مُبالَغاً فيه، لكنّ ما أرجأته الكاتبة إلى نهاية القصّة، متقصّدةً ذلك، يجعله وصفاً بنائياً موظَّفاً.
تعمّدت الكاتبة إخفاء بعض التفاصيل عن القارئ، وعن البطل أيضاً، لتفاجئ الاثنين معاً، أرادت هند من الطبيب أن يقرأ المنشور على صفحتها على «الفيسبوك»، فهي أمينة سرّ جمعية الأمل لشؤون جرحى الحرب والمقعَدين، وتسترسل الكاتبة مرّة أخرى في وصف البطل لعينَي هيفاء، إلى أن يحين الوقت لتُحدث المفاجأة للقارئ والبطل، وتكشف لهما ما أخفته، وأرجأته إلى النهاية، وتبلغ الأحداث ذروتها، حين تقول على لسان البطل: (ضبابٌ كثيفٌ غطّى عيني وقلبي، بالكاد مسحتُ شيئاً منه لأستوعب ما أرى، هيفاء تجلس على كرسيّ مُدولَب، يتدلّى منه غطاءٌ من الواضح أنّه لا يستر شيئاً، أين ساقاكِ يا يمامتي؟).
تتكشّف الخيوط أمامه، وأمام القارئ، حين يعلم أنّ هيفاء إحدى المصابات في الحرب، هو الذي انتظرها عشرين عاماً بعد أن هجرته بعد سنوات من الحبّ الجارف، لتعود الآن، ليست نادمة على فراقه، وليست مطلّقة كما توهّم، تعود بلا ساقين، هو الذي مازال يذكر كعبها العالي، وأرادت منه هند زوجة أخيه أن يجري لها عملية تركيب طرفين اصطناعيّيَن، لكنّه يعتذر لأنه لا يحتمل أن يراها ضعيفة عاجزة، بل سيرشّح أحد زملائه لهذه المهمّة.
إنّ ما قامت به الكاتبة من ترتيب لحوادث القصة، مؤجّلة الحديث عن حاجتها إلى عملية، جعل البطل يسترسل في وصف صورة هيفاء، ويبدو أنّ وصفه لساقيها وكعبها العالي كان مقصوداً، ليكون التشويقُ فعالاً، ولتصير الحبكة محكمة، إذ تقول الكاتبة في النهاية، على لسان البطل: (وأنا أسمع طوال الوقت صوت كرسيّ مدولب يسير في شوارعَ خالية إلا من أنفاسي).
إنّه حبٌّ في زمن الحرب، وحبٌّ آخر نجده في قصّة أخرى حملت المجموعة عنوانها: (حبّ في زمن الكورونا) بين المُعلّمة الشابّة (تالا) وحبيبها (باسل)، إذ تسير الحوادث وفق تسلسل سببيّ لا زمنيّ، تستخدم فيها الكاتبة تقنية الاسترجاع، هي المعلّمة الهاربة من الحجر الصحيّ في أثناء مرض الكورونا، لتلتقي بحبيبها العسكريّ القادم في إجازة قصيرة، ليعايدها في عيد المعلّم وعيد ميلادها.
لا تسرد الكاتبة أحداث قصتها وفق تتابعها الزمنيّ؛ إذ بدأت السرد منذ وقوفها على الباب الرئيسي للجامعة، تحاول أن تقنع الحارس أن يسمح لها أن تُدخل سيارة الأجرة إلى كليّة الآداب، متوسلة لكنه يرفض لأن القوانين لا تخوّله بذلك من دون مهمّة رسميّة، فما كان منها إلا أن تسير في الطقس الماطر تحت مظلّتها التي تصارع الريح، لتبدأ الكاتبة بسرد الأحداث والإضاءة على شخصيتي (تالا وباسل)، عبر التذكّر والاسترجاع، فقد تعرّفت عليه في بداية سفرها إلى حلب لمباشرة التعليم في ريف حلب، وكانا يخطّطان للزواج لولا هذه الحرب الغادرة، التي نسفت المخطّطات كلَّها، فتمّ الاحتفاظ به، وانتهت حياته الجامعيّة، وحُوصر أكثر من مرّة، وأُصيب أكثر من مرّة، وعادت هي لتدرّس في ريف اللاذقيّة، وتُفاجئنا بأنّه فقد إحدى عينيه بشظيّة غادرة.
وتتصاعد الحوادث حين نعلم أنّ الأهل يضغطون علها لتزويجها، وتتأزم أمورها حين يستشهد زوج شقيقتها؛ لتعود إلى أهلها برفقة طفلة صغيرة، إضافة إلى مشكلة أخرى واجهتها مع أخيها الذي يرغب في الإسراع بتزويجها؛ لأنه هو الآخر يريد أن يتزوّج في بيت العائلة، فهو مرتبط منذ سنوات، ولم تتحسّن ظروفه.
إنّها الحرب مرةً أخرى، يُضاف إليها الظرفُ الطارئ في ظل وباء الكورونا، حيث نسيت والدتها لانشغالها بمتابعة المستجدات في الأخبار أن تسألها عن سبب خروجها من البيت في وقت الحجر الصحّي. هو حبٌّ في زمن الكورونا، وفي زمن الحرب أيضاً… باسل الذي تحمّل أعباء السفر من أجلها ينتظرها، والطّريق إلى كليّة الآداب طويل، والطقس ماطر، فتصاب بنوبة عطاس شديدة، ولأنّها تخاف عليه، استدارت عائدة قبل أن تصل إليه بعدة خطوات، خوف أن تنقل إليه العدوى، فراح يركض خلفها ليمسك ذراعها موبّخاً: (ستظلّين طفلة، هل أنتِ معلّمة حقّاً)، وتنتهي القصّة حين يُهديها علبة «كمامات» في عيدها، تقول الكاتبة: (وضحك، وضحكت بقامتها القصيرة التي لم يُفلح كعبها العالي معها كثيراً، بينما استطاع هو أن يفعل، ويرفعها عالياً في سماء الحبّ، حيث كانت الشمس تلوح لتنعكس ألوان قوس قزح في قلبيهما، ويُزهر ربيع من أمل).
وثمّة قصة أخرى، هي (لو) تستقي أحداثها من زمن وباء الكورونا، ويأتي الحدث متساوقاً مع عنصري الزمان والمكان، وتبدو البطلة في القصة قد ودّعت حبيبها، مستعيدةً لحظاتٍ سابقةً، بعد مرور أربعين يوماً على الحجر الصحّيّ، تقول الكاتبة: (أربعون يوماً مرّت على الحجر الصحي ومازال شبح الموت جاثماً على شرفات بيوتنا، ينهش تفاصيلنا، ويتحكّم في سيرها كيف تشاء)، وبعد مرور أربعين يوماً تقرّر البطلة، التي توحّد صوتها بصوت الراوي، أن تصعد إلى سطح البناء الذي تسكن فيه، لتلقي نظرة على لاذقيتها، تحنو على بحر هائج وتحاول عبثاً تهدئته.
العدد 1115 – 11- 10-2022