التطور والانتقال من عتبة في الحضارة إلى أخرى أعلى منها هما أمر حتمي له مسار باتجاه واحد وإلا لكان الإنسان ظل قابعاً في كهفه البدائي في الغابة، ولما انتقل للعيش في المدن وفي الأبراج الشاهقة، وناطحات السحاب، ولما بلغ ما بلغه من أعلى درجات الراحة، والرفاهية، ولعله سيصل في يوم إلى حد من التطور يكتفي به، ولا يجهد معه إلى المزيد مما يحققه.
لكن الحقيقة التي بات من الضروري علينا أن نواجهها، أو على الأقل أن نتنبه إليها هي أننا قطعنا مسافة في طريق غير آمنة لتبقي علينا عقولنا في صحة وسلامة عندما اندمجنا بالواقع الافتراضي فأقمنا حاجزاً بيننا وبين العالم الحقيقي، وكأن أدوار الحياة قد تبدلت ليصبح الوهم حقيقة، والحقيقة وهماً.
وذلك الشاب الذي نشأ في عهد التكنولوجيا عندما أعلنت عن نفسها يقول لي، وكأنه يذيع سراً، بأنه أصبح يرتبك في حياته أمام أي مشكلة تعترضه بعد أن استغرق في عالمه الافتراضي، ليجد نفسه عاجزاً عن مواجهة مشكلاته اليومية على بساطتها، ويتمنى لو أنها صفحة كصفحات الوهم للتطبيقات الإلكترونية على شبكة المعلومات ليغلقها بالسهولة ذاتها.. بل إنه وجد نفسه كلما مدّ مزيداً من خطواته داخل ذلك العالم وجد نفسه قليل الحيلة أمام ما يجد نفسه في مواجهته من مشكلات لدرجة أنه ما عاد بقادرٍ على التعامل مع التفاصيل التي تطرأ على صفحة حياته.. فما الحل؟ ويتساءل: ترى هل سلبته تلك الفضاءات الوهمية قدرته على التواصل الفعلي مع العالم الخارجي، كما قدرته على التفاعل المنطقي مع الحياة ذاتها؟ أم إنها خلقت منه بطلاً وهمياً من ظلال يصول، ويجول على صفحات مواقعها معتداً بقواه الذهنية، وإمكاناته، وما يتقنه من مهارة في التعامل مع التقنية الحديثة، لكنه عندما وقع في أزمة حياتية لم يعرف كيف يواجهها.. ترى هل يواجهها كما يفعل مع الألعاب الإلكترونية لينتصر في النهاية، ويقتل الخصم؟ إلا أن قوانين الحياة تختلف عن قوانين الألعاب التي تضع حلولاً مسبقة لكل عقدة يستطيع معها اللاعب أن يختار منها ما يشاء؟.. بينما المشيئة هنا تختلف.. فالحلول ليست جاهزة، ومسارات الأحداث لا يمكن التحكم بها كما يفعل أي لاعب مع لعبة إلكترونية.
وينتهي حديثنا بأنه قرر أن يقفل صفحات الألعاب إلى غير عودة ليكون مسرح الألعاب الحقيقية هو صفحة الحياة ذاتها بعد أن يسحب نفسه من عالم أوهمه بقوته وبقدرته على إيجاد الحلول لمشكلات ليست سهلةً.
وإذا كان الوهم يصنف على أنه من الأمراض النفسية التي تجعل المرء يخلط بين الواقع وما يتخيله فإن وهم القوة الفارغة التي يسربها الافتراض، وحتى قبل أن تنتشر وسائله الحديثة والأكثر تطوراً بين عامة الناس، والتي لا تتطلب أكثر من برنامج ذكي، ونظارة أكثر ذكاء ذات أبعاد ثلاثية، أقول إن وهم القوة، والقدرة على مواجهة صخور الحياة وتحطيمها سيعلو صوتها إلا أنها لن تعود سوى بالأصداء ما لم يدرب المرء نفسه على التفاعل مع واقعه، ومواجهة حقائقه، ويفصل بينه وبين عالم غريب أفرزته التقنية بتطورها، وأفرزت معه ما يكاد يصبح مرضاً معاصراً يستدعي إسعافاً سريعاً قبل أن يتفشى ويسري سريان الأمراض المعدية التي تنتشر عدواها بين الناس.
وحتى لو كانت الجوانب الإيجابية التي تشحذ الذكاء، وتنمي الفطنة، وردود الأفعال السريعة تشجع على التعاطي مع تقنيات الافتراض الأكثر تطوراً، فإن كفة الميزان تكاد تتساوى مع ما تخلفه من آثار سلبية نجحت في أن تجعل من ذلك الشاب في موقع الارتباك، وقلة الحيلة، لتصبح الحقيقة فعلاً في المواجهة.