عقدت الدهشة لسان المذيعة، وهي تتلقى جواب “بيل غيتس” على سؤالها: كيف أصبحت أغنى رجل في العالم، وماذا يعني لك ذلك؟! بقوله: لست أنا ذلك الرجل! هو ببساطة، صديق قديم، يدعى بيلي!.. يعمل ولا يزال بائع جرائد، في كشك مستأجر؛ في مكان بسيط من المدينة، التي كنت أعمل بها.. قصدته ذات يوم للحصول على الجريدة، ولم يكن معي مالاً كافياً لأشتريها، فعقدت معه صفقة، بأن أعطيه شيكاً دون رصيد، يصرفه بعد أيام عندما تتحسن الحال، فرفض بيلي وقدم لي الجريدة من حسابه، فسألته: كيف تفعل ذلك، وأنت رجل فقير، ولا مال لديك، لتشتري به طعاماً؟
فقال بيلي: يا صديقي الثراء الحقيقي ليس بما لديك من مال، إنه بما تختزنه داخلك من الحب والعطاء.
سألت المذيعة: وهل مرّ وقت طويل على الحكاية؟
فقال : ربما ربع قرن.. المهم أنني زرت بيلي، منذ فترة، وقد صرت ما أنا إليه اليوم، وكان لا يزال في المكان المعتاد، فرحب بي ضاحكاً، فسألته كيف عرفتني؟ لم يجب بل قدم لي الجريدة، فأخرجت شيكاً مفتوحاً، باسمه، ودفعت به إليه، فقال مستغرباً: ما هذا؟
قلت هو ردّ لما قدمته لي في السابق من حب وعطاء، وبإمكانك أن تغيّر حياتك بالكامل، كأن تشتري منزلاً كبيراً، ومتجراً، وسيارة، وثيابا.
أعاد بيلي الشيك، وقال لي
لم تتعلم يا بل إن الثراء الحقيقي، ليس بأرقام رصيدك في البنوك، بل بما تحمله داخلك من الحب والعطاء..
وهكذا بيلي اليوم، بما يختزن من الحب؛ وعزة النفس، أكثر ثراءُ مني بكثير.
حكاية بل غيتس وصديقه الفقير الغني بيلي تقودنا للتفكير ملياً في توصيفنا لمصطلح “الثراء” أو الغنى فالكل متفق على تفضيل غنى النفس والأخلاق على اكتناز المال دونهما، لكن طبيعة الحياة تقدم لنا نماذج عديدة من الناس تفني عمرها لتكسب المال، ولهذا تهون عليها الوسائل طالما غايتها واضحة، لكن المشكلة أن يكون السعي للمال والثراء، مشروطاً بتقديم التنازلات والتخلي عن الكثير من العناوين النبيلة، هنا يتحول الساعي للثراء إلى عبد رخيص لما يسعى للحصول عليه، هنا، يختل ميزان القيم الاجتماعية وتسقط المعايير فيتسابق اللاهثون وراء الثراء لالتهام بعضهم وغيرهم، والأخطر أن يعقد هؤلاء تفاهماً فيما بينهم، ضد كل من يخالفهم السلوك والغايات، كل ذلك يحدث عندما يسود زمن الاستهلاك، وتضيع المعايير الأخلاقية، وتتبدل المفاهيم والمصطلحات، باتجاه ما يملك الشخص من حسابات مصرفية، وأموال تمكنه من شراء ما يريد ويرغب، عندها لم يعد غريباً أن نرى عبدة المال يحتلون المراتب ويحصدون المكاسب والشهادات الوهمية وغيرها، لدرجة أنهم يصدقون أنفسهم أمام كثرة المصفقين والمنافقين حولهم.
أذكر أن ثرياً صرّح بصوت مرتفع.. لن أزوّج ابنتي لرجل غني.
وفي توضيح ما ذكر، أضاف: ليس الغني من يملك مالاً كثيراً، لم يتعب ويجتهد في الحصول عليه، وربما كان مولوداً، وملاعق الذهب في فمه، الغني الحقيقي، إنسان يستثمر الفرص، ويصنع المستحيل ليجني ثروة، باستثمار عقله وموهبته، واجتهاده.
قد يحصل أحدنا على المال من ضربة حظ، أو من كسب ورقة يا نصيب، فلا بعرف كيف يستثمر ما لديه، فيسارع لترميم عقد النقص لديه، والمبالغة بمحو علامات الفقر التي رافقت حياته، فيجعل لنفسه أحدث السيارات، ويبالغ في اقتناء وسائل الرفاهية، ومنهم من ينفق ماله، ببناء منزل من فئة القصور، ثم يستدين لكسوته، هذا لن يكون غنياً، بل أحمقاً، قادته الفرص لكسب مال، نجح في ضياعه وتبديده سريعاً.
يقيناً، لن أتحدث عن مظاهر البذخ وتبديد المال، لدى فئة قليلة من الشباب الصغار، حديثي النعمة، خصوصاً من أبناء الأزمة، وأثرياء الحرب، وكيف يتسابقون للتباهي، في إظهار ثرائهم، والإنفاق بلا ضوابط، أو حدود، في مرابع الطعام والسهر، والفنادق الفارهة، في غياب الرادع المجتمعي والأخلاقي.
فالمهم الآن التركيز على من يملك المال، ولا يعرف كيفية الاستثمار النافع، والمجدي، هنا قد يكون ما أتحدث به يفسر حال الكثير من شبابنا، الذين تنقصهم مهارات توظيف المال، بالطرق التي تضمن لهم تمويلاً مستداماً، من خلال مشروعات تنموية ناجحة، ومطلوبة، تحقق لهم سبل الثراء، وتعمّم دورهم في مساعدة غيرهم، بتأمين فرص عمل معقولة.. فيكسبون ترحيب الناس ومحبتهم، ويستحقون شكر الوطن.
هنا، لابد من التذكير بدور مؤسسات وهيئات الدولة، ذات العلاقة، وأعني تحديداً مؤسسات تنمية ودعم المشروعات، والاستثمار، وهيئات تخطيط الدولة، بالانتباه جيداً لإمكانات شبابنا المجتهدين، وعلى رأسهم أبناؤنا المغتربون، بفتح الأفق الواسعة أمامهم، للمشاركة في تنمية بلدهم، وإعادة إعمار ما دمرته الحرب، وحثهّم على ما ذكرت، وتشجيعهم، بتقديم تسهيلات مدروسة، وخرائط استثمارية، وجبهات العمل، الواضحة، والحقيقية، عندها لن يكونوا وحدهم الأثرياء، فالكل رابح تحت سقف الوطن، عندما نستثمر جيداً، وننجح في توظيف المال بالاتجاهات الصحيحة.
وان لم ننجح بحجز مقعد لنا، بين أباطرة المال، ولم نتمكن من تأسيس شركات كبرى، فلا بأس أن نحمل في سلوكنا، ودواخلنا، رصيداً كافياً من المحبة والعطاء.
بشار الحجلي