الملحق الثقافي:
كتب واسيني الأعرج عن هذه القضية في جانبها اللغوية والتنمر الذي قد يكون ضرورة حيناً، ولكن لايمنع برأيينا من الاطلاع على لغات العدو لمعرفة أهدافه، فمن عرف لسان قوم أمن شرهم يقول الأعرج:
هل يجوز أن نترجم لمن يعادوننا، أو جمعتنا بهم حروب قاسية؟ وهل نقبل بأن نُتَرجم أعمالنا إلى لغاتهم؟ هل المثقف العربي عنصري تجاه اللغات الأخرى، أو بعضها؟
أسئلة مهمة تنتاب الكثير منا وهو يواجه هذا السيل من الفقر الثقافي والضحالة التي أصبحت تحكم جزءاً كبيراً من ثقافتنا وحتى يومياتنا. استعيد في هذا السياق عبد الله المأمون، الرجل المثقف بامتياز، الذي كان يدفع ثمن الكتاب، وزنه ذهباً، فقط ليترجمه لأنه قيل له إن قيمته عالية. لم تكن تهمه اللغات أو جنسيتها أبداً بقدر محتوى الكتاب. القيمة الثقافية والحضارية هي المحدد في النهاية. ترجم من اليونانية والهندية والصينية والفارسية والسريانية وغيرها من لغات الحضارات المكتوبة، قبل أن يكتشف العالم المكتبة العظيمة التي خلفها وراءه من خلال الفعل الترجمي العظيم، الأمر الذي جعل الدولة العباسية تعيش في زمانه أكبر لحظاتها الحضارية والإنسانية. لقد تفرد بتشجيع اكتساب العلوم من فلسفة وطب ورياضيات وفلك واهتمام خاص بعلوم اليونان.
لم يكن تأسيس عام 830م بيت الحكمة في بغداد إلا دليلاً على أنه لا جنسية للعلم والثقافة والفكر ما دام يفيد في معرفة الآخر والاستفادة منه. الترجمة التي رعاها بنفسه وأولاها الاهتمام الأساسي هي أهم ما يميز حقبة حكمه، لدرجة أن أنستنا أنه قتل أخاه الأمين الذي نزعه من ولاية العهد وولى مكانه ابنه، قبل أن يترك المأمون مكانه لأخيه محمد المعتصم. نقلت في وقته العلوم والآداب السريانية والفارسية واليونانية وغيرها إلى اللغة العربية التي أصبحت تحتل مكانة مرموقة إلى درجة أن أصبحت لغة علوم وسجال وفكر. الغرب نفسه كما نعرفه اليوم، كثيراً ما اعتمد على الترجمات العربية لترميم تاريخه وثقافته. حالة ابن رشد وعمله على أرسطو ما تزال شاهدة على هذا الجهد الذي ظلت تحكمه المعرفة ولا شيء غير ذلك؟ لو قدر اليوم لبيت الحكمة أن يتأسس من جديد سيكون زبانية اليوم أول من يقوم بحرقها، بلا أدنى تردد لأنها تطبع مع عدو الأمس. الداعشية ليست حالة دينية، لكنها أيضاً حالة دماغية لا ترى في المرآة المقعرة إلا نفسها المريضة، قبل أن تحكم على نفسها بموت أكيد، وهي تظن أنها تقتل الآخرين.
الوسط العربي مخترق جداً بهذه العينات التي تعاني عطالة فكرية وتختزل التاريخ الإنساني في سلسلة من ردود الفعل الجاهزة والمرضية.
لا توجد حضارة خارج الترجمة أبداً والاستفادة من الآخر. ماذا سيكون أمر الجزائريين الذين لم يترجموا إلى اللغة الفرنسية فقط، لكنهم كتبوا بها أيضاً، أي استعاروا لغة العدو؟ حتى حولوا الفرنسية إلى غنيمة حرب كما يقول كاتب ياسين؟ أي مجنون يملك اليوم حق هز وطنية كاتب ياسين وآسيا جبار ومولود معمري ومحمد ديب ورشيد بوجدرة والطاهر جاوت والهادي فليسي وغيرهم؟
كل أدبيات الحركة الوطنية كتبت بالفرنسية لأنها كانت اللغة الوحيدة المتاحة في ظل منع الاستعمار تعلم اللغة العربية. بفضل استعمال اللغة الفرنسية كتابة وترجمة وصلت القضية الجزائرية إلى أقاصي الدنيا.
طبعاً العالم اللغوي غير عادل ويسير وفق نظام القوة، والفرنسية كانت قوة عسكرية وثقافية، واستعمالها من الكتاب الجزائريين كان مفيداً. للحرب وقت وللسلام وقت. ماذا لو اتبع الفرنسيون والأميركيون منطق المقاطعة الغبي، وحرموا أنفسهم من ترجمة الأدب الألماني العظيم بحجة أنهم كانوا أعداء في الأربعينيات، وأن النازية تسببت في حرق بلدانهم وقتل عشرات الملايين من الأبرياء؟ الشيء نفسه ينطبق على الإمبراطورية اليابانية وإيطاليا.
مهم جداً ما قام به الكثير من الفلسطينيين والعرب حينما ترجموا الكثير من نصوص الأدب العبري إلى العربية، وحققوا بذلك هدفين كبيرين، معرفة الآخر العدو الصهيوني كيف يفكر وما آلياته، لكن أيضاً معرفة العبراني الصديق، وكيف يفكر، ويناصر القضايا العربية والفلسطينية على وجه التحديد. لا يمكن أن نضع في سلة واحدة الروائي الكبير ألموس عوز والروائي دافيد غروسمان مع الأدب الصهيوني في تصوير العربي في أحط الصور.
سميح القاسم ودرويش وغسان كنفاني وإميل حبيبي وإدوارد سعيد وغيرهم ترجموا إلى العبرية، ووصلوا إلى عمق مايسمى (المجتمع الإسرائيلي) بقوة، دون أن ينقص ذلك من قيمتهم ووطنيتهم، بل اخترقوا السياج (الإسرائيلي) وأوصلوا آلامهم إلى الآخر الذي لا يراهم إلا وفق ما تسمح به الآلة الصهيونية القاسية والمعتمة.
لم أسمع أديباً فلسطينياً عاقلاً يتحدث عن تطبيع هؤلاء من خلال الترجمة. عقلية تعويض الشعب الفلسطيني يجب أن تتوقف، له الحق في أن يرى ما يناسبه لأنه الوحيد المحروق بجحيم الاحتلال.
العدد 1116 – 18- 10-2022