الثورة-مازن جلال خيربك:
كما كل الأدوات الاقتصادية وأكثر منها بقليل، تلعب السياسة الضريبية دوراً مهما في عملية البناء الاقتصادي التنموي في ظروف الرخاء، في حين تلعب دوراً محورياً خلال فترات الحروب والنكبات في تخفيف العبء الاقتصادي والمادي عن كاهل المواطن العادي باعتباره الأكثر استهدافاً (وفقا لأدبيات الاقتصاد)، وتالياً كاهل صغار المنتجين والورشات والفئات المتوسطة اقتصاديا ذات الملاءة المالية الهشة، أي غير القادرة على الصمود دون استمرار العمل وبذات الوتيرة.
غياب الرؤية الواضحة
لكن المشكلة تكمن في غياب أي ملامح يمكن أن تعكس خطة في السياسة الضريبية في الفترة الحالية، حيث يمكن للمتابع أن يلحظ وبسهولة إجراءات أقرب إلى العشوائية في التوجهات الضريبية، والتي يمكن أن توصف بسياسة إطفاء الحرائق، تبعا للجوء الى بعض المطارح الضريبية التقليدية والتي تتصف بالسهولة تاريخياً كلما دعت الحاجة إلى ذلك، في حين يتم تجاهل أو عدم لحظ مطارح أكثر أهمية وأكثر جدوى ضريبياً للخزينة العامة للدولة، وفي ظل كل ذلك يأتي غياب التوضيح او الشروحات من السلطات الضريبية لتوضيح ماهية النهج الذي تسير عليه.
تمويل سهل
لا يخفى أن الظرف الراهن وتبعاته الاقتصادية تجعل من السياسة الضريبية، جوهر النمو الاقتصادي الذي ينصبّ على زيادة الطاقة الإنتاجية، التي تعتمد أساسا على الاستثمار الأمثل في موارد المجتمع المادية بالدرجة الأولى والبشرية بالدرجة الثانية، في إطار السعي للخروج من الوضع الذي نعيشه، والمتمثل أساسا في نقص الموارد المتاحة لأجل تمويل المشاريع الاقتصادية وإحلال التنمية الشاملة، ولا يغيب أن الطريق الأسهل حاليا لإيجاد حلول لتمويل النفقات ودفع عجلة التنمية للأمام هو الجباية الضريبية مهما كان أثرها على صغار المكلفين ومحدودي الدخل، خاصة أن دورها في الفترة الحالية يقتصر على كونها أداة تمويلية محضة.
ضرورة التحرّك
لعل أبرز مظاهر عدم الوضوح في السياسة الضريبية ما جرى خلال الفترة الماضية من تشكيل لجنة يرأسها وزير المالية “لدراسة النظام الضريبي السوري ومراجعة التشريعات الضريبية النافذة واقتراح التعديلات التشريعية اللازمة في إطار رؤية الإصلاح في السياسة الضريبية وفي ضوء السياسة المالية والاقتصادية العامة للدولة، على أن تحدد اجتماعات هذه اللجنة بما لا يقل عن اجتماعين شهرياً”، فهذه اللجنة ستعمل وفق وزارة المالية على الدراسة والمراجعة ووضع المقترحات، في مبادرة تبدو منطقية، في حين أن الواقع مغاير لذلك تماما، فالنصوص في عمل السلطات الضريبية والمالية تحدد الإطار العام فقط، ولكن العمل التنفيذي الميداني اليومي يعتمد على الاجتهادات والقرارات المالية والضريبية، فلكل موظف ولكل رئيس شعبة ورئيس قسم ومدير ومديرية اجتهاداتها الخاصة وتشكّل القرارات تأسيسا على ذلك، ناهيك عن القرارات الضريبية التي ترد من السلطات الأعلى في وزارة المالية، وعليه كان من الأجدى لو ان المالية عملت على توحيد المرجعية الضريبية من خلال وقف الاجتهادات، والحد ما أمكن من التفاسير الشخصية والتي تعتمد كبنية أساسية تفوق في قوتها كثير من الأحيان النص الوارد في قرار او تعليمات تنفيذية، ولعل من نافلة القول إن هذه الأخيرة تفوق في قوتها أحيان كثيرة النص على اعتبار النصوص تورد إطاراً عاماً، اما إسقاط نصوصه على الحالات التي ترد إلى الدوائر الضريبية فرهن بالتعليمات التنفيذية، وهذه أيضاً رهن بتفسير الموظف –أيا كان موقعه- لها.
الضريبة أداة لا غاية
كل ما سبق يعكس القناعة المتوارثة لدى السلطات المالية بأن الضريبة غاية وليست وسيلة، في حين أن كل النظريات والمدارس الاقتصادية وأدبياتها تعرف الضريبة بأنها أداة لا أكثر للوصول إلى هدف وطني عام وهو تأمين الموارد لتحقيق التطور الاقتصادي والاجتماعي والبشري، ولإصلاح مفهوم الضريبة وربطها بالهدف، لابد من إصلاح مفهوم السياسة الضريبية والتي تحدد كينونة الضريبة وبنيانها، وقد أوردت المدارس الاقتصادية العديد من التعريفات شبه الموحدة للسياسة الضريبية فالبعض قال بكونها “مجموعة من البرامج التي توضع باستخدام كافة المصادر الضريبية الفعلية والمحتملة، لإحداث آثار اقتصادية واجتماعية مرغوبة، وتجنب أية آثار غير مرغوبة فيها من أجل تحقيق أهداف المجتمع الاقتصادية والاجتماعية”، في حين ذهب البعض إلى أنها “فن الاقتطاع بأحسن صيغة ممكنة مبلغ من الضرائب محدد مسبقا، في حين قال البعض بكفاية تعريف الضريبة فقط واعتبروا قرارات الحكومة بشأن الضرائب هي السياسة الضريبية، وعليه فقد عرفوا السياسة الضريبية بأنها “مجموعة القرارات المتخذة لتأسيس وتنظيم وتطبيق الاقتطاعات الضريبية طبقا لأهداف السلطات العمومية”، أو “مجموعة التدابير ذات الطابع الضريبي المتعلق بتنظيم التحصيل الضريبي قصد تغطية النفقات العمومية من جهة، والتأثير على الوضع الاقتصادي والاجتماعي حسب الوجهات العامة للاقتصاد من جهة ثانية.
رأي خبير
الباحث الاقتصادي الدكتور سنان علي ديب وفي رأي له حول هذه المسألة أكد أن المتابعة والمراجعة الدورية للسياسات الاقتصادية عامة بما فيها الضريبية والمالية من الأمور البديهية والضرورية، فما بالك إن كان الوضع الاقتصادي غير سليم نتيجة الحرب وانعكاساتها وكذلك نتيجة ضبابية الكثير من الرؤى والإجراءات، ناهيك عن وضع عالمي يوحي بالخوف وخاصة في ظل الأجندات الإعلامية والتي تحمل فوبيا القادم على الرغم من انها قد تحمل مكاسب لمن يعرف الاستثمار الصحيح وخاصة ممن تجاوزته صعوبات الحرب والحصار.
ديب اعتبر أن الوضع الاقتصادي الحالي يضعنا أمام حتمية المراجعات وتصويب الأخطاء والانحرافات -إن وجدت-، مؤكدا أن أغلب ما لوحظ في خضم السياسات المالية والضريبية إما رؤى سابقة كان حجم معارضيها أكبر ممن نفذها بأسلوب الصدمة والتي صدمت العارف بإطارين اثنين: أولهما فرض سياسات ضريبية معروفة النتائج ولا تناسب الواقع المعيشي والاقتصادي من جهة، وتجاوز منعكساتها التوقعات لجهة تحيزها ضد غالبية الشرائح، وكذلك معاكستها سيرورة التعافي والانطلاق والإحاطة الاقتصادية، لافتا الى ان الجميع يعرف أهمية السياسات المالية والضريبية لرسم الخطوط العامة الكبرى للبُنى الاقتصادية والاجتماعية وتحقيق العدالة والتوازن الاجتماعي والجغرافي، ولكن للأسف –يتابع الدكتور سنان- أغلبها تم تمريره إما بلا عنوان وضائع المقصد تحت حجج تقويض التضخم، في حين أن الركود التضخمي زاد بها وكذلك مواجهة الفساد والتهرب الضريبي المستشريين وبتصريحات مسؤولي وزارة المالية خلال فترة ما قبل الحرب، ولكن كان اللجوء للحل الأسهل والأقل جهدا وذلك طبعا على حساب الطبقة الوسطى التي اندثرت.
غياب المراجعات
الدكتور ديب أشار في حديثه للثورة إلى عدم وجود مراجعات، كما أن الإقرارات بما فات كانت آنية من دون الإقدام على فعل لتصحيح الاعوجاجات وبالتالي مُرِّرت السياسات الضريبية وكانت انعكاساتها غير مرضية، فلم نعرف حجم الأموال التي جُمعت، وما الدور الذي لعبته، ولا حجم ما تم ضبطه من التهرب الضريبي، ولا حجم الدور الذي لعبته هذه السياسات لدعم الاقتصاد، معتبرا أن السلطات الضريبية لم تخرج خارج الصندوق المحاط بالتصريحات، بحيث تستثمر هذه السياسات لأغراض تأسيس الانتعاش والتعافي الاقتصادي، ضاربا مثالا على ذلك القطاع غير النظامي (يقصد اقتصاد الظل والعمل التجاري غير المقونن) والذي نما بأسلوب شبكي، والذي وإن بُرِّر في وقت ما، إلا أن أغلب مكاسبه تعود لفئات خارج نطاق استفادة الاقتصاد الوطني.
ويخلص ديب إلى أن افتقاد البرنامج والرؤية لا يمنع المحاسبة، دون إغفال أن الوضع الاقتصادي والاجتماعي العام بحاجة لتكافل اجتماعي عام وسياسات متجددة إصلاحية، وأحد أهم أدواته الإبداع والتجديد في السياسات المالية والضريبية.
بالنتيجة
بالنتيجة فإن النظام الضريبي يبقى أحد المكونات الأساسية للسياسة المالية والاقتصادية والاستثمارية، وبالتالي فإن السياسة الاقتصادية لا يمكن لها النجاح دون تغييرات جذرية ومنطقية تدفع بعجلة النمو الاقتصادي إلى الأمام، وباعتبار الضريبة لها دور ريادي في ذلك فهي تبقى الوسيلة المثلى لدعم التوجه الاقتصادي وبصفة خاصة في ميدان الاستثمار.
