شكلت ثورة الاتصالات والتقانة تحولات جوهرية في حياة الناس وصلت لحدود تطلعاتهم وأحلامهم وامتدت بعيداً، لتطال منظومة التفكير، وأسلوب الأداء، وشكله العام والخاص.
ومع دخول العالم، الألفية الثالثة، باتت نظم الاتصالات، والتواصل التقني، بين الأفراد، والشعوب، والدول، والقارات، تمثّل عصب الحياة، ومرتكزاتها الأساسية، التي اُختصرت بفضلها المسافات، وصار العالم اليوم، قرية صغيرة، يتسابق أهلها للوصول أسرع، لتحقيق المكاسب، وامتلاك المنجزات الحضارية، وارتفعت حرارة المنافسة، ليس من أجل التفّوق، بل باتجاه بسط السيطرة، والتحكم بممتلكات الدول الضعيفة وثرواتها، وخلق بؤر التوتّر، لتحقيق النفوذ، والتفوق السياسي والاقتصادي.
فبفضل ما قدمته هذه “الثورة”، من حلول تجاوزت الحدود، لتصل للكون الواسع، انقسم الناس إلى مجموعات وفرق، تختلف فيما بينها، بدرجات الأثر، والتأثير بهذه التقانة الجديدة، بحيث تتفاوت معدلات ذلك كله، بحسب مستويات التعاطي مع مفرزات هذه التقانة، وأنواعها وتخصصاتها المتشعبة.
فمن صانعٍ ومنتجٍ وموزّع نشط، إلى مستهلكٍ أبهرته هذه التقنية، فوقع أسيراً لها، مسلوب الإرادة، لا يستخدم من ميزاتها إلا القشور، أو بمعنى أدقّ، المتاح، والمسموح له به، دون تبصّرٍ أو تفكير.
والأكثر من ذلك أن المستثمرين في هذه التقنيات باتوا المتربعين على عرش الثروات الخيالية، كما هو الحال مع فيس بوك، وتويتر، وتيك توك، وانستغرام، وسناب شات، وغيرها الكثير من الإمبراطوريات التقنية، التي اقتحمت عالمنا، لدرجة أنها باتت محركاً أساسياً وراء كل ما يحدث على اتساع هذا الكوكب، وما بعده باتجاه النجوم والكون كله.
إنها محركات فعالة، لاستلاب العقول والسيطرة، إضافة لكونها أصبحت منصاتٍ، لتخريب التوازن البشري، عن طريق بثّ ثقافاتٍ غريبة، تفرّق ولا تجمع، تحطّم وتخرّب، دون أن تبني، والهدف دوماً، تحطيم سلطة العقل، وقد نجحت هذه التقنيات إلى حدٍ كبيرٍ في تحقيق أهدافها، وشكلت أعداد مستخدميها أرقاماً بالمليارات، يقارب عدد سكان الأرض.
وفي كل وقت تطلق العقول المشغلة لهذه الوسائل، خدمات متطورة، بالصوت والصورة، والمؤثرات المدهشة، تضاعف من رغبات وأعداد المستخدمين السلبيين، والمسلوبي الإرادة تماماً.
وأكثرهم، لا يملك المعرفة للتعامل مع جديد، وميزات هذه الوسائل، فيستخدم القدر اليسير منها، والتي جلّها محتويات تافهة، تدعمها سياسات، ومحفزات مالية مغرية تدفعها الشركات المالكة، والمشغلة للمستخدمين “صناع المحتوى” في العالم الافتراضي.
ويكفي القليل من البحث لتقف – صديقي المتابع – على نوعية هذا المحتوى المسيطر بالمطلق على منصات التواصل “الاجتماعي” في وقتنا، لتجد عالماً واسعاً من التفاهة، والابتذال، يحظى بملايين المتابعات في وقت قصير، بينما يفشل محتوى علمي رزين، وثقافي بتحقيق أجزاء قليلة من حجم تلك المتابعات.
بالتأكيد لن نشتم التقنيات الجديدة فلها الكثير من الفوائد، ولن ندعو للابتعاد عنها، فهذا تغريدٌ يائسٌ خارج السرب، لكن من حقنا البحث عن المسؤول الرئيسي عن هذا التردي، والتفكير الجاد بالارتقاء باستخدام التقنيات الحالية بما يطوّر سلوكنا كبشر ويخلق مستوى أعلى من التعامل الحضاري، وعلينا كذلك التنبه لمخاطر الغوص في ظلام العالم الافتراضي، والإشارة لما تذكره الدراسات من مخاطر تعود على المستخدمين، ومنها ما يضر بالصحة العقلية حيث ذكر د.تيم بونو، عالم النفس، البريطاني ومؤلف كتاب “عندما لا تكون الإعجابات كافية”، ذكر ست ظواهر قد تؤثر سلباً على صحتنا العقلية، تبدأ بالحسد، فالوقت الذي تقضيه في مشاهدة الصور “المثالية” على منصات التواصل قد يثير غيرتك وحسدك، ويؤثر على صحتك العقلية دون أن تشعر.
فقد كشف باحثون في المعهد الدانماركي لأبحاث السعادة، قبل سنوات، أن العديد من الأشخاص يعانون من “حسد فيسبوك” وأن من أخذوا استراحة منه لمدة أسبوع شعروا برضا عن حياتهم، وبتوتر أقل بنسبة 55%، وتحدثوا أكثر مع العائلة والأصدقاء، وحسب صحيفة الغارديان البريطانية فإن الاستخدام المفرط لهذه التقنية يقودنا إلى الإدمان الذي يجعلنا نشعر بضرورة فتح فيسبوك وإنستغرام وتويتر، والقفز بينها مراراً وتكراراً، مما يسبب حالة تسمى “التمزق”، تدفع الشخص لتتبع التحديثات في جميع ساعات النهار والليل.
وفوق هذا مخاطر عدم التواصل، فمع أن أقوى مؤشر على صحتنا العقلية، وسعادتنا، هو قوة روابطنا مع الآخرين، لكننا سمحنا لوسائل التواصل أن تحل محل تواصلنا المباشر مع الناس، حتى أصبح مقدار الوقت الذي نخصصه للشاشة، يقابله انخفاض مماثل في كمية ونوعية صلاتنا الشخصية.
ومن المخاطر الأساسية نذكر التشويش، حيث تُلتقط أكثر من تريليون صورة سنوياً حول العالم، لتظهر على منصات التواصل للفوز بإعجاب المتابعين، فتحرمنا من الاستمتاع بجوانب أخرى من الحياة تشتمل على كثير من اللحظات الحلوة، وصحبة الأهل الأصدقاء، وتساهم في التشويش على ذاكرتنا الفعلية مما يساهم بعدم النوم، والقلق وتشتيت الانتباه، وحسب دكتور بونو: “إذا لم تستطع التخلي عن هاتفك لدقائق، فالأفضل أن تجرب قوة إرادتك لتحقيق ذلك”، فكمية المعلومات التي توفرها وسائل التواصل بكل سهولة تشتت انتباهك.
ولتكتشف المزيد من المخاطر، ليس على المستخدمين فحسب بل على الصحة الاجتماعية عموماً، علينا التذكير بما اتفق عليه عالمياً لتنظيم استخدام وسائل التواصل وفق ما عرف بميثاق دولي لحرية النشر يحظر التعامل المسيء للأفراد وتفكيرهم ومعتقداتهم ويمنع النشر تحت عناوين محاربة الإرهاب، والطائفية، والتحريض، والعنصرية، وغيرها من المواد، التي تتعارض مع حرية الناس، وخصوصيتهم، وأفكارهم، ومعتقداتهم، مما دفع الكثير من الدول والحكومات لسنّ تشريعات صارمة بحق المستخدمين، ترتب غرامات مالية كبيرة، غير عقوبة السجن لفترات حددتها حسب مقدار السوء المترتب عن الاستخدام السلبي لميزات وسائل التواصل.
الخلاصة مما سبق، هي الدعوة لتحكيم العقل والمصلحة الخاصة، والعامة التي تتجاوز الأفراد لسلامة الأوطان، وتحديداً عند استخدامنا اليومي لوسائل التواصل والبحث للاستثمار الأمثل لما تحمله من مزايا تفضيلية تمكننا من تحقيق الهدف المعرفي أو الشخصي من هذا الاستخدام بعيداً عن الغرق في سلبياتها ومخاطرها.
ويكفينا السؤال عن مبررات السباق المحموم للشركات العالمية المنتجة لأجهزة التواصل وملحقاتها وما تطرحه من تطبيقات وبرمجيات، وأجهزة بات اقتناؤها يحتاج ثروة، ومبالغ لا يقدر عليها سوى قلة من الناس، هذا السباق الذي يفسّر حدة التنافس بين تلك الشركات ومالكيها، ليس لجمع الثروات الطائلة، بل للسيطرة على العقول والتحكم بها، تحقيقاً لمصالح خفية نحتاج زمناً لمعرفتها.
فهل نفكّر ملياً حتى لا يبهرنا بريق تلك الوسائل التي اختصرت المسافات، وباتت توجهنا نحو عالمها الافتراضي لنكون مجرد أشخاص افتراضيين؟ وهل نكون ما نريد ونستحق أم نساعدهم لنكون كما يريدون ويخططون؟!، القرار بيدنا.
بشار الحجلي