الثورة – مها دياب:
في بيئة إعلامية تتعرض لتحولات عميقة وتحديات متراكمة، لم تعد الأساليب التقليدية في إدارة المؤسسات الإعلامية كافية لتلبية تطلعات الجمهور أو الحفاظ على استمراريتها، فالمشهد الراهن يفرض إعادة نظر جذرية في بنيتها الإدارية والتحريرية بالاعتماد على أدوات علمية، وتحليل بيئة العمل الداخلية والخارجية، وبناء رؤى تحريرية قادرة على قراءة الواقع والتأثير فيه.
فبين الانغلاق والانقسام، وتراجع المصداقية، وتحديات الرقمنة، يغدو الإعلام السوري أمام امتحان احترافي شديد الحساسية.
وفي حديث خاص لصحيفة الثورة، قال المدرب الدولي في الصحافة والحوكمة أكرم أحمد: “إن المؤسسة الإعلامية التي لا تملك رؤية تحريرية واضحة، تشبه المركب في بحر مضطرب بلا بوصلة”.
المدرب أحمد يرى أن الإدارة التحريرية الناجحة تبدأ من فهم بنية المؤسسة والبيئة المحيطة بها، وأن وظيفة التحرير ليست النشر فقط، بل هو توجيه ذهني ومهني، ينطلق من تحليل علمي لطبيعة الجمهور، وتحولاته، وحاجاته، وآلية حصوله المعلومة.
وأضاف: إنه في العمل الإعلامي السوري تتقاطع السياسة بالمجتمع والرقابة، لتصبح الرؤية التحريرية مستقلة ومبنية على منهجية واضحة، وتصبح خط الدفاع الأول عن المهنية، والضمان الأساسي لاستمرارية المؤسسة وتماسك رسالتها. استعادة الثقة وشدد على أن فقدان الجمهور للثقة ليس وليد اللحظة، بل نتيجة تراكم سنوات من الخطاب الأحادي والبعد عن الواقع الذي انتهجه النظام السابق، ومع ذلك فإن استعادتها ليست مستحيلة، بل تبدأ من خطاب اعلامي جديد يعترف بالتقصير والأخطاء السابقة، والعمل على إعادة الحوار والتفاعل مع الناس، لا مخاطبتهم من برج عاجي، فالإعلام الذي يتابع ويستمع، يصحح مساره، ويوسع قنواته التفاعلية، قادر على ترميم الجسر بينه وبين الجمهور مهما كان الشرخ عميقاً.
ويشير المدرب أحمد إلى أن الرقمنة ليست مجرد أدوات، بل عقلية، وأن التحول الرقمي يجب أن يبدأ من داخل المؤسسة، اي من ثقافتها وموظفيها وآلياتها، حيث الاستثمار في منصات رقمية دون تدريب الصحفيين أو إعادة تشكيل دورة إنتاج المحتوى هو هدر للموارد، كما أن النجاح لا يكون بحجم المنصة، بل بقدرتها على محاكاة الواقع، والتجاوب مع تغيرات السوق والجمهور، وإن هذا التحول يحتاج إلى إرادة إدارية، وخطة مدروسة، وقيادة تؤمن بأن المستقبل لن ينتظر المتأخرين.
ويرى أنه لا يوجد تعارض بين الدور المجتمعي والبعد الربحي في الإعلام، إذا ما تم التوازن بينهم بذكاء، وأنه من الممكن أن تنتج المؤسسة محتوى يخدم الوعي العام، ويجذب الإعلانات في الوقت ذاته، إذا ما حافظت على استقلالها التحريري، وقدمت مادة تحترم الجمهور، فالربح هنا يصبح أداة دعم للرسالة، لا نقيضا لها، عندما توضع المعايير الأخلاقية والمهنية في صلب النموذج الاقتصادي للمؤسسة. الشفافية والمساءلة الشفافية تبدأ من بناء السياسات لا فقط إعلانها هذا ما أكده المدرب أحمد بقوله: “عندما نضع مدونات سلوك تحريرية وإدارية واضحة، وآليات شكاوى مفعّلة ومفتوحة، نخلق بيئة من الثقة الداخلية ونعزز مهنية المؤسسة أمام جمهورها.
فلا إعلام جاداً دون مساءلة، ولا مساءلة حقيقية من دون أنظمة تنفيذية تتيح النقد الداخلي وتحفز المراجعة دون خوف أو تردد.
ويشير المدرب أحمد إلى أن القائد الإعلامي الحقيقي هو من يستطيع الربط بين المتغيرات، ويقرأ الاتجاهات، ويعيد تموضع المؤسسة وفق المتغيرات دون أن يفرط بثوابتها، فالقيادة التحريرية ليست شأناً إدارياً فقط، بل دور تواصلي وفكري يخلق بيئة عمل واعية، ويحافظ على بوصلة المؤسسة في ظل العواصف المهنية أو السياسية، والقيادة اليوم تحتاج إلى وعي تقني، وعاطفي، واستراتيجي، لا مجرد إدارة للوقت أو الفريق.
وينبه المدرب الدولي إلى أن أي تدريب لا ينبع من تحليل احتياجات حقيقي، ويطبق من دون مشاركة العاملين، هو تدريب لن يثمر، ويجب دائماً الاهتمام بتصميم برامج تدريبية تراعي الفجوات، وتبنى على أدوات تحليل منهجية مثل SWOT وPESTEL، وتدمج بين المعرفة النظرية والمهارات العملية، وتصقل عقلية تطوير دائم لدى الإعلامي، فالتدريب هنا ليس ترفا ولا مناسبة بروتوكولية، بل جزء عضوي هام وفعال يساهم في نمو ونهوض المؤسسة الإعلامية. المؤسسات السورية على مفترق وأكد المدرب أحمد أنه بين الإعلام التقليدي والحاجة الملحة للإدارة الاستراتيجية، تقف المؤسسات السورية على مفترق طرق لا يحتمل التأجيل، لأن المرحلة الراهنة تتطلب مراجعة شجاعة، واستثماراً ذكياً للفرص، وتحريراً من الأطر الجامدة التي كبلت الأداء المهني طوال السنوات السابقة، فلم تعد هناك تحديات في التمويل، أو محدودية في الموارد التقنية، في ظل التحرير والدعم العربي والعالمي لسوريا، بل نحن الآن أمام دعوة إلى ابتكار نماذج جديدة في التفكير والتنظيم نحو خطاب إعلامي جامع ومعبر.
كما أوضح أن بناء إعلام مؤثر يبدأ بإرادة حقيقية في الإصلاح، واستعداد للتعلّم، وتواصل مستمرمع تطلعات الناس، بعيداً عن الانغلاق، وبعيداً عن الخوف من النقد، فالقدرة على الاستماع، وتحويل الملاحظات إلى أدوات تطوير، هي ما يصنع الفارق بين المؤسسات التي تتآكل بثقلها، وتلك التي تنهض برسالتها.
وختم قوله: إن الإعلام ليس مجرد منصّة للأخبار، بل هو مساحة للتأثير، ولإعادة تشكيل الوعي الجماعي، وتعزيزالسلم المجتمعي، وفي هذا السياق لا بدّ من تعزيز ثقافة مهنية ترتكزعلى الشفافية والمساءلة، وتنظرإلى التدريب لا كحدث، بل كمسار دائم لصناعة الكوادر وحماية الرسالة.
ولخص رؤيته بقوله: “الإعلام لا يكتفي بعكس الواقع كمرآة فقط، بل يمتلك طاقة التغيير.. بشرط أن تقترن الرسالة بالشجاعة للانطلاق والبدء الصحيح”.