في الأيام الجميلة للحياة المدرسيّة، كنتُ مولعاً إلى حدٍّ كبير بالفن المسرحي، وقد ذهبتُ بعيداً في هذا المجال لدرجة أنني تجرّأت وقمتُ بتأليف العديد من المسرحيات الهادفة – على مستوانا البسيط طبعاً كمسرح مدرسي في واحدة من القرى النائية الهادئة البعيدة عن الصخب – كما كنتُ أقوم بإخراجها بتقنياتٍ مضحكة، وأشارك بتمثيلها أيضاً مع العديد من زملاء وزميلات المدرسة الرائعين.
كنّا نحاول في تلك الأعمال المسرحية أن نجسد الواقع الذي نعيشه بحلوه ومرّه، سواء بتلك المسرحيات التي أقوم بتأليفها، أم تلك التي صارت تأتينا من فرقٍ أكثر تطوراً على مستوى الناحية والمنطقة أيضاً، أم تلك التي نقتبس فكرتها ونبني عليها سيناريو جديداً يتناسب مع اهتمامات القرية والمدرسة.
ومن ضمن المسرحيات التي اقتبسنا فكرتها كان هناك مسرحية سميناها (جهاز الكذب) تدور أحداثها حول أن هناك أشخاصاً مُشتبه بهم بأمرٍ أو بعدّة أمور ولكنهم ينكرون الشبهات ويُنزّهون أنفسهم من الأخطاء، فيتم إخضاعهم للجلوس على جهاز الكذب الذي لا يُخطئ أبداً ولا يُجاملُ أحداً في كشفه للكاذبين.
يجلس المشتبه به على كرسي ويتم وضعُ رأسه بين ساعدي الجهاز، وهذان الساعدان هما يدان لأحد رفاقنا في المدرسة، كان يقف خلف ستار ويؤدي دور الجهاز، وأمام المشتبه به مُحقق يبدأ بتوجيه الأسئلة إليه، فإن كان الجواب سليماً بقي الجهاز جامداً لا يتحرك، أما إن كان الجواب كاذباً فسرعان ما يُطبق بساعديه على خدّي المشتبه به، وكنّا نختار أن تدور الأجوبة الكاذبة حول قضايا تخالف الأعراف السائدة إن في المدرسة أم في مجتمع القرية، ولذلك كلما أطبق الجهاز على المشتبه به كانت ضحكات المتفرجين تملأ الآفاق.
هكذا تخيّلنا منذ نحو خمسة وأربعين عاماً أن نعيش في عالمٍ لا مكان فيه للكذب، والأحمق هو الذي يظن أنه سيضحك على الجهاز الذي سيكون أعجز من أن يكشفه، ولكنه لا ينال من وراء ذلك سوى فضحه وضحك الناس عليه.
ويبدو أن ذلك الخيال يوشك أن يصير حقيقة على الأرض من خلال جهاز التتبع الصغير / GPS / المذهل، الذي وإن بدأ يدخل حياتنا عبر السرافيس، كاشفاً أكاذيب الكاذبين من السائقين، فإن هذا الجهاز قادر في الحقيقة على أن يتوسع بالانتشار أكثر فأكثر، لا ليكون فقط كاشفاً لتحركات السيارات الحكومية أيضاً – كما جرت الوعود – وإنما ليكون كاشفاً أيضاً لتحركات كثيرة، آليّة وبشرية يمكن من خلالها أن يُشكّل عوناً ودليلاً حقيقياً واضحاً لمجمل ما يقوم به الأشخاص ولاسيما أنه قادر على تسجيل وتجميع معلومات السيارة عن بعد مهما كان موقعها أو مكانها الجغرافي، وتسجيل كل ما يدور بداخلها ويتيح الاستماع له بشكل مباشر وفوري.
الأهم من ذلك أن بعض العلماء يتجهون حالياً لبحث إمكانية الخوض في خوارزميات دقيقة تُمكّن هذا الجهاز من مطابقته مع قوانين وأنظمة إدارية معينة بما يتيح الوصول إلى أقصى حالات الشفافية الإدارية من خلال إمكانية انكشاف مختلف الأعمال التي يقوم بها الأشخاص، وإعطاء تنبيهات عند وقوع أي خطأ إداري ومالي والإسراع في تصويبه.
تخيلوا أن يُبرمج هذا الجهاز ويندرج ليكون مرافقاً لكل واحد من المسؤولين، ويصير راصداً له بتحركاته وقراراته وإجراءاته، وعند كل خطأ يُطبق على المخطئ كجهاز الكذب الذي كنا نتخيله على خشبة المسرح المدرسي.
إن كانت الدولة استطاعت اليوم أن توفّر من تطبيق نظام التتبع على السرافيس فقط، ما يزيد عن مليار ليرة يومياً في دمشق وحدها، فتخيلوا كم سوف توفر من آلاف المليارات عندما يُتاح استخدام نظام التتبع على الأشخاص بكل شفافية وإنصاف ..؟ إن حصل هذا فعلاً سيكون بمثابة إعلان عن دفن الفساد .. وظهور جهاز الكذب.